ورد في الجزء التاسع من البداية والنهاية أنه أتي برجلين أسيرين إلى الحجاج وهما من أصحاب ابن الأشعث فأمر بقتلهما فقال أحدهما إن لي عندك يدًا. قال: وما هي؟ قال ذكر ابن الأشعث يومًا أمك، فرددت عليه. فقال ومن يشهد لك؟ قال: صاحبي هذا. فسأله، فقال: نعم. فقال: ما منعك أن تفعل كما فعل؟ قال بغضك. قال: أطلقوا هذا لصدقه، وهذا لفعله.

البعض قد يتبوأ مكانًا عظيمًا، أو يتقلد منصبًا رفيعًا فلا يعلم أن هذا المكان بحسب تأثيره أنه ابتلاء وامتحان من الله فيما له وما عليه من حقوق وواجبات شرعية ونظامية، فإما أن يوظف قدراته، وإمكانياته، وأعماله لما يحقق المصلحة العامة ويحفظ حقوق العباد والبلاد، ويخشى الحيف والجور فيكون نعم العامل المستعمل، وإما العكس فينصهر به ذلك في بوتقة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم قال: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه.

وبطبيعة الحال ليس الحزم في الأمور وتدًا يضرب للشقاق والإشقاق، بيد أنه مقيدٌ بقيد مهم: ألا يتجاوز حدود المألوف، وأن يُستقصدَ منه الحق والإحقاق وإلا أضحى من التعنت بمكان مستظلا بظلال المصلحة العامة، وبما أننا ذكرنا مصطلح السلطة فإنها تختلف جذريًا عن التسلط الذي يتسلل ضوءه من بين هذه الأسطر ويكون تباعًا للتعنت الناتج عنه سوء ذلك الاستعمال رغم التشابه في اللفظ بين المعنيين (التسلط والسلطة) فالأخيرة صاحبة التاء المربوطة قيدها الإسلام بقيود لاعتبارات موضوعية متعلقة بإقرار الحقوق والواجبات وتوشحت بها الدساتير العالمية تماشيًا مع ميثاق إعلان حقوق الإنسان العالمية استنقاذًا من لهيب الاستبداد الذي ساوى بين الإنسان وبين أصله من التراب طبقيًّا وفلسفيًّا وليست هي محور الحديث.

الوزير صاحب سلطة لكن إذا تجاهل الأنظمة أو حورها بحسب فكره الشخصي تجرداً منها اعتبر ذلك تسلطًا وتجاوزًا غير نظامي.

الأب صاحب سلطة لكن إذا صادر حقوق أسرته في العيش داخل البيت بسلام اعتبر ذلك تسلطًا وتجاوزًا غير أخلاقي.

المدير على كرسيه إذا لم يفرق بين العمل وبين من قام به وخلط بين النظريتين (الشخصية و المهنية) وبات يخُضعها لمآرب أخرى في نفسه بعيداً عن سياسات العمل وأنظمته فلا يعتبر ذلك إلا تسلطًا وتجاوزًا غير أدبي.

الموظف إذا استغل مكانته وخاصة المهنية للتعطيل والتأويل فهي إساءة مقنعة كمن يرمي سنارته في بحر الأنظمة فتصطاد حرفًا أو نصًا فلا يتورع عن تفسيره بل ويجدها ذريعة للتعقيد دون أن يُرجع الأمر إلى أصله ووصفه.

لا يختلف الأمر كثيرًا عن نموذج الأسيرين الواقفين بيد الحجاج وهو يمثل السلطة بجميع معانيها إذ لم يدقق في بينتهما ليثبت الحق الذي حتى ولئن بان وظهر فلن يغير من شخصيته شيئًا وحق له ذلك، بينما بلور الحال والمقال على ظاهر الموقف، ولم يخض في النوايا الداخلية ويؤولها ويسيء استعمالها ويطوعها لرغبته الجامحة في إهراق الدماء غالبًا.

ولست بصدد إظهار شخصية الحجاج على أنه الرجل العادل.. فالقارئ لا يجهل حاله ولا يخفى عليه صفحات تاريخه، ولكن العبرة بحال الموقف في التعامل ليس إلا.

وهناك من هو أعلى منه مثلًا كما في قصة سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه عندما نهبت غطفان إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنقذ اللقاح منهم وعاد منهم بملء يده ووقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لو بعثتني في مئة رجل استنقذت ما بينهم من السرح وأخذت بأعناق القوم»، أي علاوة على ما استرد منهم نجلب عليهم بالخيل والرجل ونلحق بهم ونقاتل ونأخذ ما تبقى معهم من متاع ونأتي بأسراهم، رد عليه صلى الله عليه وسلم بإشارة إلى تحقيق الغاية وهي استنقاذ الأصل وعدم التوسع في الفرع، وقال: يا سلمة (ملكت فأسجح) والسجح هو اللين والسماحة والعفو وبه قالت العرب قديمًا للتجاوز عن الشيء اليسير وما يمكن للقدرة على العفو أن تنصب علمها.

أخيرًا:

إذا نلت حقك فلا تتجاوز لغير حقك، واذا ارتكزت في منصبك فلا تتوسع في شيء ليس من المصلحة التوسع فيه، وإذا قدرت على العفو عن غيرك فأعف وأصفح وأسجح ولا تترنح بين نفسك وهواها في الانتقام أو التشفي أو اختلاق الزلل وإكبار مكانه فقد تسوقك الأيام إلى لحظات ترجو فيها السجح فلا تجده وتأمل منها العفو فتفتقده «وتلك الأيام نداولها بين الناس».