«تلفون خربان» لعبة كنا نلعبها في صغرنا قبل أن تسرق التكنولوجيا الطفولة والعلاقات الاجتماعية.. كنا نجلس مجموعة من الأطفال بجوار بعضنا بعضا، ويبدأ أحدنا بجملة معينة ثم نتناقلها فردًا فردًا، على سبيل المثال يبدأ اللاعب الأول بقول: «فستان سارة أبيض مزين بورد أحمر»، يقولها بشكل فردي للشخص الذي يليه، ولا بد أن يكون هذا الشخص حريصًا على أن يسمع جيدًا لأن الجملة لن تعاد، ويستمر تناقل هذه الجملة حتى آخر شخص، في الغالب عندما نصل إلى اللاعب الأخير لن تكون الجملة التي بدأنا بها كما هي، هنا يتم استبعاد من بدأ عنده الخطأ، ويتم اكتشاف ذلك بجعل كل شخص يقول الجملة التي سمعها من سابقه وبصوت عالٍ أمام الجميع حتى نصل إلى من بدأ الخطأ فيستبعد، ثم تعاد اللعبة بجملة أخرى وهكذا، هذه اللعبة تنسف أسطورة صدق كتب التاريخ وصدق مؤرخيها، ليس لذممهم وإنما لمنافاتها المنطق والواقع.

ما يحدث الآن من عبث في حقائق وقعت قبل عدة سنوات من الآن، وهي موثقة بالصوت والصورة، يجعلك تائهًا وفي حالة شك رهيبة، كثير من التفسيرات لحدث واحد قد تكون مقنعة، ولكن أين الحقيقة؟، مثلا: إذا كانت هناك حرب.. هل رواية المنتصر ستكون مطابقة لرواية خصمه؟ هل سيذكر المنتصر بشاعة محاولاته في الانتصار وكيف استخدم أساليب لا أخلاقية ومارس الظلم لينتصر؟ وهل سيعترف الخصم باستحقاقه لهذه الحرب وهذه الهزيمة لأنه هو من بدأ بالاعتداء؟ حتى وإن كانت هناك حادثة حصلت وتحدّث الأغلبية عنها، فمن سيذكر كل تفاصيلها دون إضافة تفاصيل لم تحدث أو إخفاء بعض منها؟

الأستديو التحليلي لمباراة كرة قدم مثال مصغر لكيفية الاحتراف بتزييف «الحقائق» بناءً على الميول الرياضية، فهل سيتفق جميع المحللين الرياضيين والمشجعين على أحقية ركلة جزاء لفريق منافس ويستبعدون ذلك الذي شكك بها وينفونه؟ الواقع أنه يحتفى به ويُقلد المناصب، التحليل الرياضي مثال واضح لتزييف الواقع.

أما التحليل السياسي فهو أحيانًا يعد تزييفًا للمستقبل وما قد يحدث فيه، وقد يشوه حقًّا قد يُسترد مستقبلا، بل إنه في بعض المواضع قد يلمّع اعتداءً يُخطط له.

نحن لم نستطع استبعاد من زيَّف الحقيقة المثبتة أمام أعيننا في وقتنا الحالي، فكيف سنكتشف من حرّف بالتاريخ؟ وناقلوه تحللوا إلى مواد أولية؟، أصبحنا نلعب لعبة «تلفون خربان» ولكن.. باستبعاد من قال الجملة الأولى الصحيحة كما هي ونحتفي بمن زيفّها وحرفها.

فمن غيّر قوانين اللعبة؟.