ما الذي تعنيه مخرجات الانتخابات المغربية؟ إنها تؤكد أولاً، وبوضوح، أن سيادة أو هيمنة تيار الإسلام السياسي على الرأي ليست حقيقة مطلقة وواقعية. وثانياً، أن وجود إسلاميين في سدة الحكم أو في الحكومات لا يعفيهم من المحاسبة الشعبية، ولا تنقذهم شعاراتهم الدينية من اختبار الخسارة والهزيمة، أياً تكن مواصفات خصومهم. وثالثاً، أن اعتمادهم على «الجاذب» الإسلامي وقوة تنظيمهم وانضباطهم تفقد فاعليتها أمام تقلبات الاقتصاد والحياة العامة.. وها هم يواجهون تجربة ثالثة قاسية، بعد مصر وتونس، تدعوهم إلى مراجعة عميقة لأدائهم وبنيتهم الفكرية المتأرجحة بين الطموح السلطوي والنشاط الدعوي. يكفيهم في ذلك أن يعترفوا بحقائق المجتمعات- المسلمة- التي نشأوا ونشطوا فيها، ولا بد أنهم لمسوا أنها لا تطالب بـ«دولة إسلامية» ولا بمزيد من التدين وإنما بمزيد من الاقتصاد التنموي والعدالة الاجتماعية، وما لم تر الدولة مهتمة بتحقيقهما فإنها ستبقى ناقمة ومحبطة ومتمسكة بحقوقها، من دون أن يعني ذلك سياسياً أنها «إسلامية» أو «إخوانية».

يُضاف إلى ذلك، رابعاً، أن «النموذج المغربي» انطلق أساساً وهو مرتكز إلى خصوصيات تاريخية متأصلة لم يكن لحزب «العدالة والتنمية» أو لأي حزب آخر أن يفكر بإمكان زحزحتها أو تغييرها. فالدولة هنا هي الملك، والملك له صفة دينية يتربى المغاربة على احترامها والاعتراف بها كضمان لشرعية الحكم. كما أن الملك في حد ذاته مؤسسة تدير الدولة (أو «المخزن») التي نشأت على نمط مدني، وباتت «دولة عميقة» متجذرة وراسخة. لا شك أنها تنطوي على عوامل تكلس وأمراض بيروقراطية، لكن رأس الهرم فيها يتكيف مع الظروف، ولذلك شهد المغرب مع الراحل الحسن الثاني، في العقد الأخير من القرن الماضي، بداية «دمقرطة» فجاءت الانتخابات بأكبر أحزاب المعارضة (الاتحاد الاشتراكي) إلى رئاسة الحكومة، لكن هذا الحزب يجاهد اليوم ليبقى في المشهد البرلماني. كما أن ظروف «الربيع العربي» جعلت الملك محمد السادس يعدل الدستور لتوسيع صلاحيات الحكومة والبرلمان، وجاءت انتخابات 2011 و2016 بحزب «العدالة والتنمية» إلى رئاسة الحكومة، بعدما حصد بثبات %25 من مقاعد البرلمان، إلى أن تدهور أخيراً إلى مرتبة متدنية بين الأحزاب الرئيسية إلى حد أن حصيلته (13 نائباً، كان لديه 125) لا تُعتبر كتلة برلمانية.

بالطبع، هناك أسباب كثيرة لهذه الهزيمة، قد يكون أضعفها أن السلطة استهدفت الحزب عبر التعديل القانوني الذي غير طريقة احتساب المرشحين الفائزين نسبة إلى عدد الناخبين المسجلين وليس الذين أدلوا بأصواتهم، لكن كيف يفسر «العدالة والتنمية» أن هذه القاعدة المستجدة طبقت على الجميع فحافظ حزبا «الاستقلال» و«الأصالة والمعاصرة» مثلاً على رصيدهما السابق أكثر أو أقل، كذلك أحزاب مثل «الاتحاد الاشتراكي» و«التقدم والاشتراكية». من أسباب الهزيمة أيضاً أن أي حزب يترأس حكومة خلال أزمة صحية – اقتصادية عاتية كالتي مرت ولا تزال تداعياتها تتفاعل، معرض للخسارة، سواء لأنه أساء إدارتها أو لأنه لم يطرح الخطط اللازمة للخروج منها. لكن، مرة أخرى، كيف يفسر أن حزباً آخر في الائتلاف الحكومي، هو «التجمع الوطني للأحرار» تصدر نتائج الانتخابات، ولم يتأثر كـ«العدالة والتنمية» بتصاعد معدلات البطالة والمشكلات المتفاقمة في الصحة والتعليم والإدارة، أو بالغلاء الفاحش لأسعار السلع الاستهلاكية، أو بالقوانين التي أضرت بأبناء الطبقة الوسطى والفئات الفقيرة.

صحيح أن «العدالة والتنمية» لا يتحمل وحده مسؤولية الفشل الحكومي، وكان الناخبون رحبوا به كحزب معارض جاء لمكافحة الفساد وأعطوه فرصتين، لكنهم خرجوا باستنتاج أنه غير قادر على التغيير، وأن الحكم والإدارة بقيا عملياً في القصر لذا عاودوا الرهان عليه بإبراز أقرب الأحزاب إليه، «التجمع الوطني للأحرار». كان «التجمّع» فرض نفسه عام 2016 رقماً صعباً برغم أن رصيده لم يتجاوز 37 نائباً، إذ فرض شروطاً للمشاركة في ائتلاف حكومي لم يقبلها عبد الإله بنكيران، الرجل القوي في «العدالة والتنمية» والمستقوي بالفوز العظيم لحزبه آنذاك بـ125 مقعداً. بعد شهور من الجمود حسم القصر الموقف، وبدلاً من تعديل شروط عزيز أخنوش (زعيم «التجمع») استبدل الرجل الثاني في «العدالة والتنمية» سعد الدين العثماني بالرجل الأول بنكيران، ونال أخنوش الوزارات التي طلبها (المال والاقتصاد والزراعة والصناعة والسياحة). وإذا أضيفت الوزارات السيادية (الداخلية والدفاع والخارجية والعدل والشؤون الدينية) التي يحتفظ الملك بمرجعيتها دستورياً، فإن الحيز الحكومي الذي أبقي لـ«الإخوان» ضاق كثيراً، وزاده ضيقاً أن العثماني كان ضعيفاً وغير مؤهل للمنصب.

شكل استبعاد بنكيران ودعم شروط أخنوش ضربة ظهرت آثارها خلال الأعوام الماضية قبل أن تتحول في انتخابات 2021 إلى ما يشبه الإبادة السياسية. وقد استشعر الوسط الحزبي والسياسي المغربي خلال تلك الفترة أن القصر بدأ يعد «تجمع الأحرار» للدور الذي لعبه في الماضي كرأس حربة ضد «الاتحاد الاشتراكي»، والآن ضد «العدالة والتنمية». لذلك باشر أخنوش حملته الانتخابية باكراً جداً، وبتمويل شبه مفتوح وغير مسبوق، حتى أن حزب «الأصالة والمعاصرة» وهو صنوه من «أحزاب سلطة» انتقد علناً استخدام المال السياسي، فيما اتهمه «العدالة والتنمية» بالفساد العلني. وعدا هذه الاتهامات التي رفضها «التجمع» فإن حملته كانت منظمة وشاملة مختلف أنحاء المغرب، وحتى مع افتراض أن المال لعب دوراً كبيراً فيها إلا أنه لا يمكنه وحده من حصد المئة ومقعدين. ثم أن نسبة الإقبال على التصويت (50.18%)، وهي مرتفعة عما كانت في الاستحقاقات الأخيرة، تشير إلى أن التوقعات المسبقة باحتمال خسارة الإسلاميين لم تثر قلق ناخبيهم.

تبقى التساؤلات عن تواضع النقاش السياسي الذي تخلل الحملة الانتخابية. هنا أيضاً يشار الى أن الرؤية المستقبلية جاءت من القصر، ومن لجنة خاصة عين الملك أعضاءها، بمعزل عن الحكومة المنتهية ولايتها. وهو تحدث في خطابه الأخير عن «نموذج تنموي جديد، لمرحلة جديدة من المشاريع والإصلاحات» تضع السنة 2035 أفقاً لها، ومن الطبيعي أن الحكومة المقبلة برئاسة عزيز أخنوش ستتولى تطبيق أجندة هذه «الرؤية» التي ما كان ممكناً إيلاؤها إلى حكومة برئاسة حزب إسلامي.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»