في 1976، وقبيل وفاة ماو تسي تونج، مؤسس جمهورية الصين الشعبية، من كان يتخيل أن الصين ستصبح الاقتصاد الأكبر في العالم بعد 45 سنة، وتشكل 22% من إجمالي الناتج المحلي العالمي؟. من كان يتخيل أن الدولة، التي بدأت سمعتها في العالم العربي بمنتجات رخيصة وذات جودة من الدرجة الثانية، أصبحت الآن منشأ معظم الصناعات التقنية والمتناهية في الصغر ذات الجودة العالية؟. من كان يستطيع التخيل أنها ستصبح الآن أكبر قوة بحرية في العالم، وتبني أكبر طريق بري تجاري في العالم على أثر الطريق القديم (طريق الحرير) تحت مبادرة «الحزام والطريق» في أقل من نصف قرن؟.

لقد صرح الأمريكيون كثيرا بأن لديهم خطة لاحتواء الصين. خطة غير واضحة المعالم بالنسبة للعالم، لكنها بالتأكيد ممنهجة للأمريكيين الذين لا يزالون يمسكون بزمام القوة في العالم باستخدام تقنياتهم الفضائية والقدرات فائقة الصوت التي تتوزع حول العالم.

حاليا تنتهج الصين - على غير عادتها السابقة - منهجا أكثر انفتاحية مع العالم، وأقل تصادمية مع الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال استخدامها «القوة الناعمة» في وقت يعد مناسبا جدا لبقية العالم، بعد أن ملّ سكان كوكب الأرض من السياسات الأمريكية التعسفية، خصوصا مع العالم الإسلامي ودول الشرق الأوسط التي تحتاج إلى تعزيز التعاون الاقتصادي فيما بينها وفيما بين الصين، وإزالة الأفكار الأصولية الرجعية من عقول الناشئة، حيث لا سبيل للتعايش في ظل منهج الإقصاء، المستند على قناعات دينية أو عرقية أو حتى مجتمعية.

إن النموذج الصيني نجح خلال 45 عاما، بينما استقلت معظم دول الشرق الأوسط قبل ذلك بعقود، إذ لم يكن لدى الصينيين وقت للصراعات في تلك الحقبة، وكان معظم تركيزهم كدولة على «كيف لهم أن يبنوا ويؤسسوا مجتمعا متحضرا، ليسهموا في رخاء العالم». فمن يعرف الصينيين يدرك أن لديهم نظرة اعتزاز عالية بأنفسهم، فهم دائما يرون أنهم أكثر حضارة، وأولى بالرقي والتمدن من غيرهم.

عمليا، نجحت الصين، وباستثناء دول الخليج العربي، نظريا، فشلت كل دول الشرق الأوسط وأفريقيا في تأسيس حضارات إنسانية تتسم بالرفاه والرخاء والكرامة لشعوبها. وكانت هذه الشعوب تخدر نفسها بنفسها بأن مشكلتها دائما هي في الأنظمة الحاكمة، بينما دولة مثل لبنان يستميت المواطن نفسه فيها دفاعا عن السياسي الذي ينتمي لطائفته أو فرقته السياسية. لقد فشلت دول الشرق الأوسط التي كانت تردد شعارات راديكالية أو إقصائية ميّالة للعنف، وعلى رأسها إيران التي تعاني الفقر وانهيار اقتصادها بسبب انشغالها بخطط توسعية، لم تعد على أحد بالفائدة غير نظام الخميني نفسه.

يأتي هذا كله في ظل استجداء أوروبي بالطريقة الدبلوماسية لأكبر اقتصادين في العالم: الصيني والأمريكي، من أجل خفض انبعاثات الكربون التي يسهمان فيها بنسبة تصل إلى 75% لوحدهما، في حين أن الفحم الحجري الذي يعتمدان على تبادله يمثل 50% من مصادر انبعاثات الكربون عالميا. إن أوروبا هي أكبر المتضررين من مشكلة ارتفاع الحرارة، لأسباب اقتصادية وسياسية بحتة، حيث ستضطر لاستخدام أجهزة التكييف، وزيادة استهلاك الكهرباء، والاعتماد أكثر على النفط والغاز الروسي والهيدروجين السعودي. بينما لم يصل العالم لمستوى القناعة التامة بأن ثاني أكسيد الكربون هو سبب ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض.

ينظر العالم الآن إلى الصين، التي تضع خارطة طريق للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2060، آملا أن تنجح مساعيها في خفض استهلاك الفحم الحجري من 30 مليون برميل نفط مكافئ يوميا إلى 10 ملايين برميل نفط مكافئ يوميا بحلول 2060، وخفض استهلاك النفط من 55 مليون برميل نفط مكافئ يوميا إلى 25 مليون برميل نفط مكافئ يوميا، على أن يتم تعويض هذا الانخفاض باستخدام الطاقة النووية النظيفة، للقفز من 75 مليون برميل نفط مكافئ يوميا إلى 95 مليون برميل نفط مكافئ يوميا، وزيادة استهلاك الغاز والتحليل الكهربائي للماء إلى 80 مليون برميل نفط مكافئ يوميا عن مستواها الحالي عند 60 مليون برميل.

المشكلة أن الوصول إلى الحياد الكربوني من خلال إطلاق السوق الوطنية لتبادل الكربون، وخفضه من 10 مليارات طن سنويا إلى 3 مليارات طن سنويا، يتطلبان من الصين ضخ مزيد من المليارات في البنية التحتية.

إن دولة عظمى مثل الصين لكي تصل إلى تمام الحياد الكربوني في 2060 يجب أن تقتنع علميا بجدوى خفض استهلاك الفحم الحجري والنفط، اللذين يمثلان 17% و25% على التوالي من مصادر الطاقة في الصين بالوقت الحالي. كما أن العلم لم يثبت أن خفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون سوف يخفض درجة حرارة كوكب الأرض.

شخصيا.. أتطلع لقمة غلاسكو للمناخ في نوفمبر المقبل بشيء من الإثارة، فالعالم ليس أمامه سوى التعقّل، ودعم النماء والازدهار الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وقارة أفريقيا، لتصبح سلة العالم الغذائية والاقتصادية، وهو ما سيضمن أن بقية هذا القرن والقرن القادم سيكون على خير ما يرام بمشيئة الله.