في زمن النبوة، لم يكن لأحد من الصحابة الكرام أن يصرح بتكفير آحاد الناس أو جمعهم، إذ كان ذلك شأن الوحي فحسب. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكفر أحدًا من الناس حتى ينزل عليه الوحي بذلك؛ حتى المنافقين الذي كان يعلم أنهم يتظاهرون بالإسلام، لم تكن تجري عليهم أحكام الكفر، إلا بعد نزول وحي بكفرهم. وبالأحرى أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكونوا أيضًا يصرحون بكفر آحادٍ، أو طوائفَ ما لم يخبرهم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.

لم يبدأ تكفير الناس بأعيانهم إلا مع نشوء ظاهرة سياسية/‏ دينية في التاريخ الإسلامي، هي ظهور المذاهب العقدية، والتي كانت في حقيقتها أحزابًا سياسية، تمارس السياسة في الدين؛ وكان لكل منها مشروع سياسي تناضل من أجله، وتستخدم، لممارسته، ما أمكنها من أسلحة متاحة، وعلى رأسها سلاح التكفير؛ هذا السلاح الذي بدأ، كإيديولوجيا سياسية، مع الخوارج أثناء نزاعهم المعروف مع الإمام علي -كرم الله وجهه- في النزع الأخير من معركة صفين.

كان الإيمان، (وضده الكفر)، يُعد مقابلًا لما ندعوه اليوم بـ«الهوية الوطنية». ومن ثم، فإن تكفير شخص ما، كان يعني في حينه تجريده من كل مقوماته الهويانية، ومن ثم من مقوماته الحياتية، بما فيها إهدار دمه.

كان المشروع السياسي العربي الإسلامي حينها، ولا يزال، لا بد أن يستند إلى إيديولوجيا دينية، تسوغها وتمنحها الشرعية، وإلا فقدت مصداقيتها في أعين الناس؛ وبما أن الخوارج كانوا أصحاب مشروع سياسي محدد المعالم، فقد اضطرهم ذلك إلى ابتداع إيديولوجية دينية تعتمد على تكفير خصومهم، تمهيدًا لنزع الشرعية عنهم؛ ومن ثم استحلال قتالهم، والحلول محلهم على قمة الهرم السياسي.

عندما كانت المؤشرات تؤكد انتصار معسكر الإمام علي بن أبي طالب في مواجهة معسكر الشام، بقيادة معاوية بن أبي سفيان، في معركة صفين، تفتقت ذهنية الداهية (عمرو بن العاص)، الذي كان في معسكر معاوية، ومستشارًا خاصًا له، عن فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح، إشارة إلى طلب التحاكم إلى كتاب الله، الأمر الذي أصر معه الخوارج على الاستجابة له، مما حدا بالإمام علي -رضي الله عنه- إلى إيقاف المعركة بناءً على إلحاحهم على ضرورة قبول التحكيم؛ إلا أن أولئك الذين أصروا على قبول التحكيم انقلبوا عليه فجأة ونقموا عليه قبوله التحكيم، فخرجوا عليه، وغادروا معسكره، فسُمَّوا منذ ذلك الحين بـ«الخوارج». وكان من الطبيعي، في ظل انقلابهم عليه وتأسيسهم جبهة مستقلة تمتلك مشروعًا سياسيًا واضح المعالم، أن يبحثوا عن إيديولوجيا دينية خاصة بهم، تبرر خروجهم على الإمام علي من جهة، وتشرعن لطموحهم السياسي من جهة أخرى.

استمرت الطوائف التي تمارس السياسة في الدين، وهي حينها كانت محصورة في فرق «الخوارج، الشيعة» إضافة إلى مناصري الأمويين، ممن أطلق عليهم «الجماعة»، تستخدم سلاح التكفير، كإحدى أبرز الآليات التي تمارس من خلالها معارضتها السياسية للدولة القائمة آنذاك، وهي الدولة الأموية. إلا أن استتباب الأمر لاحقًا للأمويين، جعل المعارضين السياسيين، خاصة الشيعة، يلجؤون إلى المعارضة الفكرية، التي يأتي على رأسها التأسيس الفكري لأدبيات المذهب. ومن هنا تطور التكفير باتجاه عقدي بحت؛ أي تجاه تكفير المعين، أو الطائفة المعينة، لذات التكفير نفسه؛ بمعنى أنهم اُعْتُبِروا كفارًا من ناحية دينية بحتة، وليس لغرض المعارضة السياسية. ثم واصل قطار التكفير سيره حتى العصور المتأخرة والمعاصرة من التاريخ الإسلامي، ليعود مرة أخرى إلى لعب دور سياسي حاسم، خاصة مع ظهور التيارات والجماعات «الجهادية» المعاصرة، التي استخدمت التكفير، كسلاح ماضٍ ضد خصومها المذهبيين ظاهرًا، ولكنه ذو غرض سياسي برجماتي بحت.

إن التكفير، بوصف ما يترتب عليه، حسب الفقه الإسلامي، من جزاء حسي، كإقامة حد الردة، وعدم جواز وراثة ورثته ماله، وعلى عدم جواز وراثته هو من مورثه، ولكون هذه النتائج المترتبة على التكفير تدخل في حكم المسائل التي تُنظم بنوع من الإجبار الذي تحتكره الدولة وحدها، وجزاء معنوي يتمثل في النبذ من الجماعة، فإن التكفير يظل حقًا سياديًا للإمام، باللغة التراثية، أو للدولة، باللغة السياسية المعاصرة.

وبغض النظر عن هذه الحقيقة الواضحة، فإن التكفير، سواء صدر من فرد أو من جماعة، إنما يدل على قلة العلم أو قلة الورع، أو كليهما وهو الأقرب. فلقد كان السلف الصالح أبعد ما يكونون عن التكفير، بل إنهم يحتالون لإعذار من صدرت منه أقوال أو تأويلات كفرية، لاعتبارهم متأولين، أو مخطئين.

ونختم بقول الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: «فليس لأحد أن يُكفِّر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تُقام عليه الحجة، وتُبيّن له المحجة، ومَن ثبت إيمانه بيقين، لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك». ومما لا شك فيه أن من يملك سلطة إقامة الحجة، وتبيين الحجة هي الدولة وحدها، التي تملك ذلك الحق، بحكم احتكارها العنف.