بين الحفاوة والانتقاد استقبل المجتمع حكايات لموظفين نظموا مخالفات بحق أقرب الناس إليهم، بمن فيهم آباؤهم، وقصصا عن آخرين أبلغوا عن تجاوزات قانونية ارتكبها، حتى آباءهم وأوصلوها للجهات المعنية.

الحفاوة جاءت لهؤلاء ممن رأوا في فعلهم إخلاصا لعملهم، وحرصا على المصلحة العامة، وتغليبا لها حتى على المصلحة الخاصة الضيقة.

أما الانتقاد فجاء من أن هذا الأمر يتعارض مع البر الواجب للوالد، ومن القياس أنه في حالة الحرج كان يمكن للموظف أن يترك إيقاع المخالفة بحق والده لموظف آخر، أو كان على شاكي ووالده المخالف أن يتبع معه طريق الإحسان بالنصح والإقناع بدل الإبلاغ الذي يخشى معه أن يصل الأمر حدود الضغينة بين الطرفين.

وبين وصف أفعال الأبناء بأنها تطبيق دقيق للقانون والنظام، أو أنها صورة من صور العقوق تباينت الآراء، فقد رأى البعض أن المناصحة هي السبيل الأمثل في مثل هذه الحالات، فيما رأى آخرون أن القانون ميزان أعمى لا يفرق بين قريب وغريب.

مسائل شديدة الحساسية

يعتقد أستاذ القانون، الأكاديمي في قسم الأنظمة في جامعة نجران الدكتور عبدالرحمن الحارثي، أن التعامل مع مثل هذه المسائل شديد الحساسية، ويجب أن يحاط بالحذر الشديد، خصوصا حين يتعلق الأمر بالوالد، إذ لابد من الموازنة بين حفظ حقوق الآخرين، وصيانة مقام الأبوة عما يكدره.

ومن هنا يجب على الابن أن يتلطف في نصحه ما استطاع أو يرسل إلى الوالد المخالف من أهل وده من يقنعه بالعدول عن المخالفة، ويذكره بعظيم أثرها على الوطن وأهله، ولن يعدم الطريق الذي يحفظ به ودّ والده، ويصون به حقوق الخلق، فإن عُدِم الحل وسُدت الطرق في الوجوه فلا يتولى البلاغ بنفسه، بل يجعل غيره ممن لا يمت إلى المخالف بصلة أن يبلغ عن المخالفة الجسيمة خاصة في كل ما من شأنه أن يمس حقوق الآخرين.

وعن نظرة المجتمع لهذا الموضوع، قال: «في الغالب يستنكر المجتمع إبلاغ الابن عن والده في حال ارتكابه المخالفة لعظيم حق الوالد في المجتمع، ولما تعارف الناس عليه من صيانة الوالد وعدم التعرض له بما يكره، وأفضل الطرق من وجهة نظري هي محاولة ثني الوالد عن ارتكاب المخالفة قبل وقوعها، أو الإقلاع عنها بعد حدوثها بشتى الطرق، وإلا جعل غيره ينوب عنه في الإبلاغ حفاظاً على حبال الود أن تنصرم بين الأهل».

القياس بتنحي القضاة

يقيس البعض تنحي الموظف عن إيقاع المخالف بحق والده المخالف، بحالة القاضي، الذي يخشى أن يقع تحت تأثير الحرج من نظر قضية أحد أطرافها يمت له بصلة قرابة أو صداقة أو غيرها، ما يخلق حالة من القلق للطرف الآخر، على الرغم من أن وجود تلك العلاقة لا يقطع حتما بتحيز مؤكد من قبل القاضي، لكن الحرص على نزاهة المرفق القضائي أعطي الحق بالتنحي للقاضي عن نظر قضية ما تشعره بالحرج، كما أتيحت للمتقاضين إمكانية تقديم طلب تحويل القضية من قاض إلى آخر.

مخالفة قانونية

يشدد الدكتور عبدالله بن أحمد الوايلي المعالج النفسي والعيادي الجنائي في مجمع إرادة والصحة النفسية بالرياض على أنه «من المؤكد أن التستر بكل أنواعه وصوره يعد مخالفة أخلاقية وقانونية سواءً كان بدافع الإصلاح أو الخوف من الفضيحة أو أي أمر آخر، وأن المتستر يستحق العقوبة المنصوص عليها قانوناً، ولا يستثنى من ذلك أحد».

ويفسر قول الدكتور الوايلي على أن نظرة المجتمع والقبيلة لا تُعفي المتستر من مسؤوليته، ولا يجب أن تردع الابن عن القيام بواجبه حتى لو كان المخالف والده.

ويضيف: «بر الوالدين لا يعني المسايرة والمساندة المطلقة والطاعة العمياء بلا ضابط كما يعتقد البعض، فالسلوك السلبي والانحرافات لا يقرها الدين ولا القانون ولا الأخلاق ولا المنطق، فهي فساد لا طاعة فيه؟! والطاعة للأب تكون بالمعروف أي عدم وجود ضرر مباشر للابن أو الأسرة أو الآخرين».

التستر أمر مذموم

يكمل الدكتور الوايلي: «من هذا المنطلق فإن التستر أمر مذموم وغير محمود سواء في القوانين الشرعية أو الوضعية أو في السلوك الإنساني والأخلاقي، خاصة داخل الكيان الأسري لأنه يقود إلى التذبذب في المعاملة الوالدية، بل إلى فقدان التوازن النفسي والانفعالي فتتأثر الصحة النفسية لدى الأفراد، فما بالك إذا كان منشأ هذا السلوك هو القدوة، والمتمثل في الوالدين أو أحدهما، حيث إن ارتكاب سلوكيات سلبية ومنحرفة وغير محببة داخل المحيط الأُسري أو خارجه، ومن ثم استغلال الدافع العاطفي للأبناء يُعد جريمة مكتملة الأركان لأنها تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على المفهوم الذاتي والسلوك الاجتماعي الذي قد يتحول مع الأيام إلى عادة سلبية بين أفراد الأسرة».

استمرار الخطأ جريمة

واصل الدكتور الوايلي: «وقوع الأب أو الأم في الخطأ أمر وارد، ولكن استمرار الخطأ والتساهل فيه يعد جريمة كبرى كالفساد المالي أو الأخلاقي بشكل عام، حيث إن هناك سقفا للجرائم التي يرتكبها الآباء في حق الأبناء، فمثلاً التحرش بالابنة أو قتل الابن هل سيقود للتستر هنا؟

وقس على ذلك الأخطاء الأقل درجة كاستخدام حقه في الولاية بأن يعذبها أو يحبسها، ونتيجة لذلك فلا يوجد مبرر علمي واحد يجعل الأبناء يتسترون ويتكتمون على الآباء، حتى وإن كان ذلك امتثالاً للجانب العاطفي وتغييب العقل أو كان بدافع الخوف على كينونة الأسرة، فالسلوك هنا سلبي في كلا الجانبين، ويقود إلى تفاقم الخطأ والاشتراك فيه، فالخطأ لا يتجزأ والتستر على الخطأ خطأ أشد، فما بالك إذا كان الابن يطبق النظام والقانون، فهو أولى الناس باحترام القانون والقيام بواجباته تجاه دينه ووطنه ومجتمعه ومن وضع الثقة فيه، ولا يوجد قانون يعفي المتستر من جرمه».

وأكمل: «عندما تتستر الأم على أبنائها ويتستر الأشقاء على سلوكيات بعضهم فإن العلاقة الأُسرية هنا تصبح مهددة لأن المصداقية تقل بينهم، بل إن الاعتبار الإيجابي يضعف، وبالتالي تتمكن العشوائية منهم، فكيف يكون الأمر إذا كان مرتكب الخطأ هو الأب والمتستر هو الابن، فحتماً الخطر الحقيقي هنا سيشمل الأسرة بكاملها لأن التستر عليه يعني استفحال المشكلة واستمرار الانحراف لغياب القدوة فلا يوجد رادع ولا تقويم».

وتابع: «ثم إن التستر على الأب ليس من البر في شيء؛ لأنه أمر جسيم ويتوافق مع تغير الصورة الذهنية المثالية له، وهذا يعني ضعف القيم والمبادئ داخل الأسرة، وتعزيز ضمني للسلوك السلبي ودعوة لارتكاب الخطأ والمخالفة، فإذا كان أحد الأبوين اللذين يمثلان القدوة يرتكبون السلوك المنحرف ويدعون إليه، فهذا يمنح الأبناء التصريح الضمني المباشر بالتقليد والمحاكاة بلا أدنى مسؤولية، وبالتالي يصبح الأمر طبيعيا لديهم، ومن هنا تنتقل العدوى بين أفراد الأسرة، مما يترتب عليها سلسلة من التشتت والتفكك والضياع، وحتى نفهم ونستوعب ذلك يجب إن ندرك أن الدين يفترض في القدوة، سواء كان الأب أو الأم أن يُعظم شرع الله تعالى في سلوكياته وتصرفاته وتربيته لأبنائه، وأن يراعي مصالحهم كما قال، صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، فلا يأمرهم بمعصية ولا يتسلط في استعمال حقه المشروع بطريقة غير مشروعة».

العقوق بعينه

كان للمستشار القانوني مانع مصلح آل غفينة رأي آخر، حيث قال: «قيام الابن بأي فعل يضر والده مهما كان الفعل يعد عقوقا لوالده، ومهما كانت نية الابن، فلو اعتقدنا أن الابن يريد بهذا البلاغ إصلاح أو حماية والده، فالأولى أن يتولى هو علاجه إذا كان يحتاج لرعاية، (مدمن مخدرات مثلا)، أو ما شابه ذلك، فيقوم بإدخاله حد المراكز المتخصصة لعلاجه، فحق الأب على الابن فرض من الله لا يجب التهاون فيه مهما كانت المبررات، وإن كان أمر آخر فيعمل على إصلاحه وإيجاد حل مهما كلف الأمر، أو الاستعانة بكبار القوم من قبيلته أو من خارجها، ويستعين بعد الله بهم حتى يعين والده، وهذا هو البر بعينه».

إعفاء قانوني

في الوقت الذي يتطلب فيه القانون من الموظفين المسؤولين عن تنفيذ أحكامه الاستناد إلى هذه الأحكام في التنفيذ، وعدم التفرقة بين مخالف وآخر، حرص القانون نفسه على منح هؤلاء المسؤولين عن التنفيذ فرصة للتنحي عن مسؤوليتهم، وبدا ذلك أشد وضوحا في الجانب العدلي كما ذكرنا، حيث أباح للقاضي التنحي عن نظر أي قضية إذا كانت تسبب له الشعور بالحرج أو التعرض لضغوط مجتمعية لصلة قرابة تربط القاضي أو علاقة ما له بأحد أطراف الخصومة، وغيرها من الأسباب.

وتشدد قوانين مطبقة في عدد من الدول العربية على أنه إذا شارك القاضي في الحكم وكانت تربطه علاقة بأحد الخصوم مثل صلة القرابة حتى الدرجة الرابعة، يصبح حكمه باطلاً بشكل مطلق، كما أجازت بعض القوانين للقاضي إن استشعر حرجاً معنوياً ألا يوضح أسبابه لأحد، أو قد يتهرب من ضغوط معينة، حيث يخضع طلبه بالتنحي عن نظر القضية لرئيس المحكمة أو غرفة المشورة بناء على درجة القاضي.

ويقيس كثيرون على هذا الأمر بالنسبة للموظف، ويرون أنه يمكنه التنحي عن تنفيذ مخالفة بأحد أقاربه وعلى الأخص الوالد، بحيث يسند الأمر لموظف آخر.

أحوال يمنع فيها القاضي من نظر قضية

ـ إذا كان للقاضي مصلحة أو لأحد ذي صلة بالقاضي.

ـ القرابة أو الخصومة أو النيابة «إذا كان القاضي وصياً على أحد الخصوم أو قيماً عليه أو وكيلاً لأحد الخصوم».

ـ إذا حصل من القاضي أي من الأمور التالية:

أـ إذا كان قد كتب في الدعوى صحيفة دعوى أو صاغ جواباً على دعوى أو كتب استشارة أو لائحة اعتراضية أو نحوها، مما فيه مصلحة لأحد الخصوم ولو كان ذلك قبل أن يشتغل بالقضاء.

ب ـ إذا سبق للقاضي أن ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى ولو كان قبل ممارسته للقضاء.

ج- إذا كان القاضي الذي ينظر القضية سبق وأن كان خبيراً أو محكماً في الدعوى، أو كان قد أدلى بشهادة فيها.

دـ إذا كان قد حقق فيها كما لو كان عضوا في لجنة تختص بهذه القضية للوقوف على محل نزاع، أو للتحقيق أو تطبيق صكوك فإنه يمنع من نظرها.

هـ ـ إذا كان القاضي قد أفتى في فتوى مكتوبة في القضية نفسها، أما الفتوى الشفهية التي لم تحرر فلا تمنعه من نظرها.

وـ إذا كان سبق له نظر القضية مثل أن ينظر قضية أو يحكم فيها ثم ينتقل إلى محكمة أخرى فيمنع من نظرها أو حكم فيها ثم انتقل إلى محكمة التمييز فلا يشترك مع الدائرة التي تدقق هذا الحكم.