يأخذ المسافر إلى بلد أول انطباع له عن هذا البلد مع أول رد لموظف الجوازات في محطة الوصول، وأول مشهد لفظي مع سائق سيارة الأجرة من المطار إلى وجهته، ومن خلال مشاهد تصرفات سائقي السيارات على طول هذه الرحلة. هذا الانطباع الأولي الغريزي بطبيعة الحال لن تغلبه مظاهر المدنية المادية الأخرى، ويصعب محوه من الذاكرة، وكما يقال: الأرض بأهلها. وعليه، كل واحد منا يضع نفسه بكل حيادية في مكان هذا الزائر خلال الساعات الأولى من وصوله إلى أي بلد! أظن أنكم تعرفون الإجابة! ومن لم يقتنع بعد ذلك، أطرح بعض الأمثلة هنا من أمثلة أكثر معروفة لكل واحد. فما الذي يحدث في شوارعنا نحن؟ الذي حدث ويحدث ولا أعلم متى يقف أن تصرفات كثير من السائقين لا تنم إلا على أمر واحد في الأساس: عدم احترام الشخص الآخر! ورغم وجود من لديه الوعي المروري والإنساني لا شك، إلا أن مشوار الطريق لا بد أن يلوثه شيء من تصرفات الذين ليس لديهم كثير من أسس القيادة الصحيحة والذوق.

نعم قد يوجد تطبيق للأنظمة وقد لا يوجد، لكن ما يصنع الفرق هو مدى احترامنا ووعينا وإدراكنا أن معنا على الأرض بشر آخرين لهم من الحقوق والكرامة ما يجب تقديره والحرص على إظهاره. عندما تجد قائد المركبة يلف دون أي اعتبار لمن وراءه، فلا يستخدم إشارة، ناهيك أن يعتذر، فهذا كائن بشري منقوص الأهلية حتى يقود مركبة! والأدهى أنك ما إن تشغّل إشارة الانحراف حتى تجد من خلفك يحذرك بأكثر من طريقة (همجية) بعدم الانحراف، في حين أن الواجب أن يترك لك المجال وفقا للأنظمة المرورية؟! وكم مرة رُميت عليك بقايا سيجارة مشتعلة في مشوارك؟! وغيرها من الأمور الشنيعة! ماذا قلنا ونقول لأبنائنا في المدارس والجوامع والبيوت بخصوص هذا الأمر؟، أظن إننا وبكل أسف ومرارة وخجل لم نقل لهم شيئًا! أذكر إنني مرة توجهت لخطيب جمعة (معروف) وبينت له أهمية تخصيص خطبة أو خطب عن الأخلاق في الطرقات، ووعدني بذلك، ومضت السنوات، ولم يتحدث عن ذلك؟! والعجيب والأكثر غرابة فعلًا، إن أمامنا إرشادات دينية واضحة الدلالة والمعنى عن الأخلاق، ومع ذلك يظن البعض أن كل ما عليه مجرد بعض الركعات أو المظاهر البدنية الدينية، فلا علاقة يرونها بين العبادات البدنية ومثل هذه المظاهر الأخلاقية! مشكلتنا إذًا أخلاقية بامتياز، وإذا قلنا دينية أخلاقية فقد أصبحنا في دائرة أشد حرجا وشناعة عند رب العالمين وعند بقية أمم الأرض خصوصًا أنه يتوقع أن نكون قدوة.

أنا لا أنكر الخير في الناس على المستوى الشخصي في بعض الجوانب أمام محيطه المعروف، إنما الحديث عن محيط مجتمعنا الأكبر. وكما تعرفون، كم واحد تعرض لحادث، ما كان ليحدث لولا تهورنا؟! في بريطانيا مثلا، أذكر أن الطريق الريفي في منطقة كان ضيقًا وجزء منه تحت الإصلاح، فوضعت جهة الإصلاح إشارة ضوئية مؤقتة، وكان جزء من عمل الإشارة يعتمد على الحس الإنساني لقائدي المركبات، فكانت آلية العمل في المجمل أن يترك كل قائد مركبة من نفسه المجال لسيارة أخرى للعبور، واحدًا بعد الآخر بالتناوب، وبهذا تتم الحركة ليس بسلاسة فقط، بل بكل إنسانية وحضارية ملفتة! هذا المنظر أتذكره بألم كلما تحركت بسيارتي في كل مشوار طيلة الثلاثين عامًا في بلدي؟! الذي حدث ويحدث من تهور وتخلف حضاري في طرقنا وشوارعنا، مرة أخرى، أراه نتيجة قصور تربوي وتوعوي زاد حدتهما قصور في تطبيق أنظمة المرور.

والغريب المحير أن ربعنا ما إن تطأ أقدامهم بلاد الغرب والشرق حتى يبدأ الواحد المشي بحذر شديد، ويثقف نفسه في الغالب بما عليه خصوصًا عندما يستأجر سيارة؟! مرة رأيت قائد مركبة ومع زوجته وطفله، فما كان منه قبل أن يتحرك من المواقف إلا أن وضع طفله في حضنه وبدأ بالتحرك، فأشرت إليه بخطأ فعله، فرد علي بالقول: عليك بنفسك...(وغيرها من العبارات)؟! تساءلت ومازلت: لماذا نحن بهذا الرخص أمام بعضنا؟! هذا المواطن ابن بلدي لن يجرؤ أن يقول ما قال لو أنه كان في دولة أجنبية؟ إذًا هي قلة تربية وبجاحة تعكس الحالة غير الإنسانية لهذا الشخص وأمثاله.

أفلا نرتقي في تعاملنا حتى على الأقل نخفف من وطأة الجفاف البيئي على أنفسنا خصوصًا في أشد الأيام حرارة؟! ألا نجعل الحياة أفضل من خلال احترام بعضنا البعض خصوصًا من خلال مشاورينا الطويلة كل يوم؟!.

وفي الختام أرى أنه على الجهات التعليمية تكثيف العمل في مجال التربية الأخلاقية، وعلى كل أب قبل أن يذكر أبناءه بالتصرف السوي أن يعيد حساباته فيكون هو القدوة، وأن يكون في خطب الجمعة متسعًا وافيًا من الحديث والتذكير بالأخلاق خصوصًا آداب الطريق، وتكثيف الوعي المروري دون هوادة وتطبيق الأنظمة، خصوصًا في مدارس تعليم القيادة.

بهذا العمل المنظم يمكن بعون الله أن نرتقي لتتحول شوارعنا من مسارات إنسانية محترمة آمنة تعبر عن حقيقة هويتنا الإسلامية والرسالة التي يجب أن نرسلها لكل من يزورنا.