لم لا فنحن نعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة! كم من أرواح حطمت وأسر دمرت ومسيرة حياة اغتيلت وشوهت؟! ولماذا؟ لأننا مجتمعات المثالية والكمال المطلق! المخالب دائمًا على أتم الجهوزية كي تنقض وتنهش لحم أي فرد يخطئ بقصد أو بدون قصد، أن تخرج منه زلة أو كلمة في موقف كثيرًا ما يكون مجتزأ، لا يهم! وقع المسكين ووجب ذبحه!

قال الفيلسوف هيراكليتس إن السمعة الجيدة لا تبنى في أسبوع أو شهر، يتم بناؤها تدريجيًا، يومًا بعد يوم، فالأمر يحتاج إلى جهد وصبر ومثابرة، واليوم نرى بأن ساحات وسائل التواصل الاجتماعي تنتعش كلما وقع أحد في خطأ ما، أقول خطأ وليس جريمة أو كفر لا سمح الله، هنا ينتفض العامة والخاصة ويبدأون بحفلة الرجم!.

المسيح عليه السلام قال: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر أولا، ولنركز هنا على كلمة «خطيئة» فكيف إذا كان ما حدث خطأ أو زلة لسان نتج عن سلوك بشري يحدث عادة للجميع؟! من منا بلا أخطاء؟ من منا لم يزل لسانه يومًا وينطق بكلمة غير لائقة أو في غير مكانها؟ الجميع دون استثناء مر عليهم هذا الموقف، ولكن للأسف بدلًا من الاستعاذة من الشيطان الرجيم، نستدير ونعيبه، نترك كل شيء حسن وننسى تاريخ الفرد، بل لا نجهد أنفسنا بالتأكد من أي شيء عنه، نتحدث عن الإسلام ونتصرف كالوحوش الكاسرة، نريد فقط أن ننتقم، وممن؟ من شخص لا يربطنا به أي رابط، ولا يوجد بيننا أي عداوة أو كراهية، ولا نعرف حتى أدق التفاصيل عن حياته!

أخبرنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام بأن «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» أخرجه الترمذي، ولكننا لا نعطي الفرصة، ننقض كالوحوش الضارة ونبدأ بالنهش! لماذا أصبح من السهل علينا كمجتمع إسلامي أن نقضي على سمعة إنسان بكل سهولة ودون أي وخز للضمير، فقط لأنه أخطأ في موقف من الواضح أنه كان يقصد به خيرا، جانبه الصواب في التعبير، فهل نصلبه، هل نعلق مشنقته؟! نركز على خطأ ارتكبه ونتغاضى عن جريمة ارتكبت في التسريب والنشر! أيهما أولى بالمحاسبة الخطأ أم الجريمة؟!.

لست هنا للدفاع عن الأستاذ الجامعي الذي تم الهجوم عليه وبكل شراسة، فهو قادر على أن يقوم بذلك، ولكن لنفكر قليلًا، ماذا سوف ينتج عن هذه الحادثة؟ هل سيدخل أستاذ الجامعة بعد ذلك إلى قاعة المحاضرة سواء كانت في الجامعة أو على الإنترنت، ويعطي المحاضرة بكل أريحية وربما يتودد للطلبة وينطلق معهم في أحاديث جانبية لترطيب الجو الرسمي للمحاضرة، أم سيدخلها كما ولو أنه داخل عش الدبابير، لا يعلم ما سيحدث إذا ما نطق بكلمة أو عبارة سوف يكلفه ذلك سيرته الجامعية ومسيرة حياته؟! كيف سيشعر الأستاذ الجامعي بالأمان حين لا تقف معه جامعته وتحت ضغط وسائل التواصل الاجتماعي تصدر بيانًا وكأن المذكور قام بارتكاب جريمة؟! ألم يكن بالإمكان صياغة الإعلان بطريقة تحفظ وجه الأستاذ، ولكن بنفس الوقت تطمئن الشارع على أن الأمر قيد الدراسة والمراجعة ولسوف يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة حسب ما تقتضيه الحالة.

عندما كنت أدرس في الجامعة في أمريكا، دخل علينا يوما الأستاذ وقال «اليوم سوف أكسر بعض العظام»، لم نصرخ مجرم ولم نسارع إلى تقديم شكوى بحقه، فبمعرفتنا به كنا نعلم أنه يقصد تحدي العقول بعرض حالات صعبة يريد منا أن نعمل على تقديم الحلول لها، وكم مرة سمعنا أهالينا يقولون لمعلمي المدارس «لكم العظم ولنا اللحم»، لماذا لم نفكر بأن أهالينا وحوش ضارية تسعد بتعذيبنا، لأننا كنا نعلم بأن القصد هو أن يكون هنالك حزم وشدة حتى تقوى عظامنا وننمو أقوياء! ولماذا كل هذا العويل على أن بعض الأساتذة يترفقون بالإناث ويشدون على الذكور! عندما يرفق المرء بالإناث نقول تفضيل ومحاباة وعندما يكون معهم شديدًا غليظًا نقول فظًا وغير رحيم! احترتم واحترنا معكم!

لقد تم فتح «صندوق باندورا» والله يعلم ماذا سيخرج منه من الأذى بعد ذلك، سنغرق في بحر من التعديات منها الظالم ومنها المظلوم، ولكن بين تلاطم أمواج الحقد العاتية، كيف لنا أن نعلم؟! إن لم يتم ضبط النفس والتفكير بكل تحرك نقوم به، ومدى الأذى الذي سوف يتسبب به، لن نسلم ولسوف يصيب كل واحد منا بعض من هذا الرذاذ، إن لم يكن بشخصه فسيصيب من يحب!

أعجبتني إحدى طقوس التسامح لإحدى القبائل في جنوب أفريقيا، عندما يتصرف الشخص بشكل غير مسؤول أو غير عادل، يتم وضعه في وسط القرية ويجتمع أهالي القرية حوله في دائرة، ويتحدثون إليه واحدا تلو الآخر، كلّ يتذكر الخير الذي قام به ذلك الشخص، كل حادثة، كل تجربة، كل تفصيل دقيق لصفاته الإيجابية، وغالبا ما يستمر هذا الاحتفال لعدة أيام، وفي نهاية المطاف يتم كسر الدائرة ويقام احتفال بهيج ويتم الترحيب به إلى قلب القبيلة من جديد، الآن لنعود إلينا، هل يتقدم أحد ليتحدث عن الشخص المخطئ إيجابيا؟ إن تم ذلك فهم قلة وتضيع أصواتهم ما بين طبقات السيل العارم من الهجوم والتجريح! نحن نحب أن نتظاهر بالحكمة والتفهم ونقول: «إنه من الطبيعي أن يرتكب المرء الأخطاء»، ولكن هذا حينما يكون الأمر يعنينا، أما إذا كان الأمر يخص الآخر، نفقد أعصابنا وننتقد، لربما هذا ما يشعرنا بالتفوق بطريقة أو بأخرى، ولكن الأكيد هنا أننا نسارع في انتقاد الغير، ولكننا نكره أن يتم انتقادنا!