إن الوعي بهذا المعنى (الوحدوي للدولة السعودية الحديثة) هو ما يخلق الفارق بين (رجال الدولة) وهم قليل و(موظفي الدولة) وما أكثرهم، فكم من موظف عالي الرتبة بوظيفته، عاجز عن الوصول إلى مقام (رجل الدولة) في همه الوطني المتجاوز لمطبات المصالح الذاتية الضيقة إلى أفق (الدولة الحديثة) ومعاييرها في المواطنة وصولاً إلى سحب البساط من كل (الهويات السامة) التي تشبه الزرنيخ في الجسد، قد يعيش الجسد مع نسبة قليلة من هذا الزرنيخ (القبلي أو العقائدي) لكن إذا زادت النسبة عن حد معين فإن الجسد يهلك، وكل (رجال الدولة) هم فوق الأعراق والمذاهب، لأن الدولة كيان اعتباري لا يقوم على اعتبارات ضيقة مهما بررت نفسها بتأويلات عرقية تستعيد العقل النازي في ثوب عربي، أو تأويلات دينية تستعيد الخوارج في ثوب ديني.
جاء المؤسس بعبقرية تتجاوز تاريخ أجداده في دولهم السابقة ليصبح من صناع التاريخ الحديث في الوطن العربي باعتراف دول العالم الكبرى لتصبح السعودية دولة عضوًا في (الأمم المتحدة) ودولة من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية، ثم أتى بعده الملك سعود ليؤسس أولى لبنات دخول المواطن إلى (العصر الحديث) من خلال (الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق) فكانت انطلاقة تعليم البنات على يديه، ثم جاء الزمن الصعب وصراع الأيديولوجيات على مستوى العالم بين كتلة شرقية وغربية، ليدخل العالم العربي هذه العاصفة الهوجاء من الاستقطاب العنيف الذي أسقط دولاً وأنجب أخرى، فكان فيصل بن عبدالعزيز وكان هو الميزان بين رابطة العالم الإسلامي وجامعة الدول العربية فتراه حاملاً على كتفيه هم القضيتين الإسلامية والعربية إلى حد قطع البترول بإيمان وصلابة تليق بفيصل اسمًا على مسمى، ثم يأتي عهد الملك خالد بوصفه عهد الحلم والحكمة مع الرخاء إذ حصلت حادثة احتلال الحرم، فكان خالد الملك الحليم التقي النقي يرجو لأتباع (المهدي الكاذب) ما لا يرجوه لأنفسهم من الرحمة والمغفرة، ولكنهم أبوا إلا (استعادة مسيلمة الكذاب) فكانت دولة الحق والقانون فوق كل يد ترمي في عيون الشعب تراب الماضي الغابر ليعمى عن طريق المستقبل، ليجيء زمن الفهد بأقدار أرادها لشعبه في إحياء مجلس الشورى وإقرار أنظمة جذرية على مستوى المناطق في بناء الدولة الحديثة، وأقدار أرادها الأعداء لنا في احتلال الكويت ثم مد اليد إلى الخفجي لكنه الفهد الذي صنع ملحمة (الحلف الدولي) من أجل تحرير الكويت، فكانت أرض السعودية ملجأ للشعب الكويتي الشقيق، وملجأ للحلف الدولي الذي يعيد للمعتوه رشده (لو كان هناك من رشد) لكن المعتوه أرادها حربًا دخلها السعوديون ضد بلد شقيق من باب (مكره أخاك لا بطل) فكان الفهد سيد المروءة والنخوة العربية، ليتدفق اللاجئون العراقيون باتجاه الحدود السعودية هربًا من (معتوه العراق) فتستقبلهم السعودية بصدر رحب وفي المذكرات المتلفزة لعضو مجلس النواب العراقي (فائق الشيخ علي) سليل (مخيم رفحاء) ما يثلج الصدر ويرفع رأس كل سعودي فخرًا بدولته، ممثلة في ملوكه وأمرائه الأماجد.
ثم جاء عهد الفارس العروبي عبدالله بن عبدالعزيز الذي حمل بداخله عشق الشعب حد السخاء وحمية العروبة حد الصرامة وصدق الموقف حد الحسام، ليتقاطع في مهارته السياسية تجاه إشكالات الخارج وهموم الداخل مع مهارته في تحريك السيف بيده والعباة العربية على كتفه منكسًا عقاله وهو يردد بروح الفارس الطروب (نحمد الله جت على ما تمنى.....) لتقفز الجامعات من أرقام آحادية إلى أرقام عشرية والبعثات لم تترك بيت بادية ولا حضر إلا دخلته ليكون التعليم ثم التعليم صانع المستقبل.
وجاء عهد الحزم والعزم مع سلمان بن عبدالعزيز الذي خبر التاريخ في شبابه قراءة واطلاعًا كأمير مثقف، ثم خبر التاريخ حياة وتجربة يومية كحاكمٍ سياسي، فكانت النقلة النوعية لهذا الوطن على مستوى المفاهيم، لتظهر مصطلحات لم تعهدها الأجيال السابقة وعلى رأسها (التنمية المستدامة، الحوكمة، جودة الحياة) ثم كان ولي العهد يد الحزم والعزم للإرادة الملكية، فكانت محاربة الفساد بصورة تجاوزت الإطار المحلي لتخلع قلوب الفاسدين في دول مجاورة هتف بعض أهلها قائلين (نريد رجلاً يحارب الفساد مثل محمد بن سلمان)، لترى هذا الشاب فتحتار في قراءته بصفته (ابن سلمان الملك وحفيد الجليل عبدالعزيز) أم بصفته (ولي العهد الشاب) في دولة شعبها من الشباب، أم بصفته (تكنوقراط ورجل دولة) أم بصفته وفق المنهج الديالكتيكي (مجموعة الخصائص الذاتية والموضوعية) التي تفاعلت مع بعضها منذ خطواته الأولى برفقة والده الذي يعامله حينًا بصفته مواطنًا ليشعر بمواطنيه واحتياجاتهم، ويعامله حينًا بصفته أميرًا عليه من الواجبات الملكية على المستويين الاجتماعي والسياسي، الشعبي والدولي، ما ليس على غيره، ولهذا فمن الطبيعي أن تكون إجابة ولي العهد على سؤال (ما أعظم شيء تملكه السعودية للنجاح؟) أن يقول بكل ثقة: (المواطن السعودي دون أدنى شك) فشكرًا لسلمان العز هذه الإرادة الملكية في ولي عهده القوي الأمين، وشكرًا لكل مواطن تجاوز عقدته العشائرية والمذهبية في سبيل هذه الوحدة السياسية التي احتفل بها أجدادنا وآباؤنا من قبل، ثم ها نحن ومعنا أطفالنا نشير بأيدينا إلى صورة الملك عبدالعزيز ونقول: أعز الله ذريتك، وجمع كلمتها على الحق، وأنار طريقها في سبيل رفاه شعبها ومجد دولتها، اللهم آمين، يا أكرم الأكرمين.