توجهات الولايات المتحدة، كما عرضها الرئيس جو بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم تكن مطمئنة على الرغم من أنها تعد بعالم «أكثر سلاماً وازدهاراً» و»أقل انقساماً»، وفقاً لعباراته. لا يريد الرئيس الأمريكي «حرباً باردة جديدة»، ولا اللجوء إلى القوة العسكرية إلا كـ»خيار أخير»، بل يسعى إلى «حقبة دبلوماسية». هذا الكلام موجه تحديداً إلى الصين من دون أن يهدئ شكوكها، وتالياً إلى روسيا التي يحاورها حالياً لاستمالتها وتحييدها عن الصين، ويبدو موجهاً أيضاً إلى إيران. فهذه الدول الثلاث صنعت «أمجادها» الحالية مستغلة تورط الولايات المتحدة في حربي أفغانستان والعراق، ومستفيدة من بدايات الانكفاء الأمريكي بسبب تأثير هاتين الحربين على نفوذها وهيبتها. ولعل هذا ما أكده بايدن لتوه. أما الاعتماد على الدبلوماسية فلم يعد لعبة تتحكم بها واشنطن، كما في السابق، خصوصاً إذا كان يعول على الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فالنظام الدولي لم يعد «أمريكياً».

في ظروف أخرى كان يمكن للانسحاب الأمريكي من أفغانستان ولاحقاً من العراق وسورية، مضافاً إلى تقليص الالتزامات بالنسبة إلى دول الخليج، أن يكون مؤشراً إيجابياً، لو أنه استبق بحلول سلمية أو سياسية تؤسس لأوضاع مؤهلة للاستقرار. فالدول القلقة أو المضطربة تراه، على العكس، نذيراً لاستمرار النزاعات القائمة. أما في الظروف الحالية فإن الانسحاب يترك فراغاً ويشكل الفرصة التي انتظرتها الدول الثلاث وعملت على إنضاجها، ولا يمكن اعتبارها في مصلحة حلفاء أمريكا وأصدقائها أو مناسبة للخيارات التي اتخذتها على مدى العقود السبعة السابقة. بل إن واشنطن لا تبدو مهتمة بإشراك حلفائها التقليديين في ملء الفراغ الذي تتركه، وبعد تجربة أفغانستان ليس واضحاً ما إذا كان الحلفاء، في حلف «الناتو» أو خارجه، سيتمكنون من الحفاظ على دور ما في العراق، مثلاً، إذ إن حكومة بغداد قد تدعوهم إلى ذلك لكن إيران وأتباعها قد يرون العكس.

في أي حال، لا يؤخذ كلام الرئيس الأمريكي بحرفيته، فهو مجرد عرض لمبادئ عامة تخالفها التحالفات التي يرسمها لمواجهة النفوذ المتنامي للصين، بدءاً بـ»الميثاق الأطلسي الجديد» الذي وقعه في يونيو الماضي مع بريطانيا التي طورت استراتيجية دفاعية جديدة لتعزيز حضورها الدولي، ثم التحالف الثلاثي الذي ضمت إليه أستراليا (على حساب فرنسا)، فتحالف «كواد» الرباعي الذي يفترض أن يضم الهند واليابان (أو كوريا الجنوبية) إضافة إلى أستراليا. والملاحظ أقله في «التحالف الثلاثي» أن هناك تركيزاً على الأسلحة النووية، ما يرفع السقف المعلن للمواجهة التي لن يستطيع أي طرف التحكم بعدم تحولها إلى «حرب باردة» أو حتى ساخنة. ولا بد أن إدارة بايدن تخطط للأدوار التي تريدها من الحلفاء الأوروبيين أو غيرهم في «الناتو»، لكن الواقعة التي أغضبت فرنسا أثارت بالضرورة توجساً أوروبياً ليس بالضرورة تضامناً مع باريس بل بسبب تساؤلات عن خلفيات الأهداف الأمريكية.

الجديد عند أمريكا - بايدن أنها انتهت من اعتبار الإرهاب «تهديداً عالمياً» يلزمها بقيادة التصدي له، وأنها ستقوم بالرد المناسب على «الأعمال الإرهابية ضدنا»، لكنها ستواجه الإرهاب بكل السبل «بما فيها العمل مع شركائنا، حتى لا نضطر لنشر قوات عسكرية على نطاق واسع». هذا يطرح فرضيات عدة، منها أن أمريكا لن تكون بعد اليوم «ضالعةً» في تصنيع الإرهاب، وفقاً لاتهامات صحيحة أو ملفقة من جانب خصومها، لا سيما الإيرانيين الذين اعتبروا أن تنظيم «داعش» صنع لتبرير عودة الأمريكيين إلى العراق والتدخل في سورية. ومنها أيضاً أن واشنطن تقدم «اتفاقها» مع «طالبان» على أنه تصحيح لخطأ 1989 في أفغانستان حين أدى انسحابها إلى نشوء تنظيم «القاعدة» الذي ولد «داعش» من رحمه. وبالتالي فإن إدارة بايدن تتوقع من إيران أن تأخذ علماً بذلك، رغم أنها تحتضن فلول «القاعدة» ولم تكن بعيدة عن تخصيب «داعش» في بؤرة ظهوره في العراق.

لكن، من يقنع إيران وغيرها بأن تخرج الإرهاب من اللعبة، بعدما جربت كل أنواعه لمد نفوذها وتأكدت من «نجاعته» في دفع أمريكا إلى الانسحاب كما في إخافة الغرب عموماً. فمن شأن الدول الطامحة إلى ملء الفراغ الأمريكي أن تذهب أبعد في استخدام «فزاعات» الإرهاب لزعزعة الأنظمة وتفكيك الجيوش واستبدال الميليشيات بها. لا بد من التذكير على أن المشكلة مع هذه الدول، روسيا والصين وإيران، أنها لا تملك ولا تدعي امتلاك «قاعدة أخلاقية» لسياساتها يمكن على الأقل أن «تحاسب» عليها، بل إنها تخضع شعوبها ذاتها بالقمع والإرهاب ولا ينتظر منها شيء آخر إزاء الشعوب الأخرى. وليس واضحاً أن الولايات المتحدة تتعامل مع واقع أن تقاطع المصالح بين الدول الثلاث شجعها على تطوير منظومة خاصة بها من خلال ترابطها بـ»اتفاقات إستراتيجية» طابعها اقتصادي وهدفها سياسي يصب خصوصاً ضد الغرب الأمريكي والأوروبي. صحيح أن لكل منها أسلوبها في ممارسة نفوذها، لكن روسيا والصين اللتين أحرزتا تقدماً في منافسة أمريكا على القطبية العالمية تصونان «دبلوماسياً» القطبية الإقليمية التي تبلورها إيران خدمة لمصالح لم تكن متاحة لهما سابقاً.

فيما تواصل واشنطن خطوات الانسحاب من المنطقة العربية، معتبرةً أن أهميتها الإستراتيجية تضاءلت، تبدو روسيا والصين مقبلتين أكثر على تعزيز وجودهما في المنطقة، بدليل أن موسكو بادرت إلى طرح «مبادرة» لأمن الخليج. لكنهما تريدان أيضاً الإفادة من النفوذ الإيراني المرشح الذي تدعمان تخلصه من العقوبات الأمريكية. ففي الانتظار تقفان وراء تقليص طهران التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، كونها تخوض أيضاً معركتهما غير العلنية ضد سياسة العقوبات، فإذا نجحت طهران في فرض شروطها تحرج إدارة بايدن أمام الكونجرس، وتحرجها كذلك بإفساد إحدى أولويات سياستها الخارجية إذا فشلت المفاوضات الحالية في فيينا، وبالتالي تبقى توترات الأزمة النووية التي لم تثر يوماً قلق موسكو أو بكين. وفي غياب الخيارات الضاغطة لا يستبعد أن تقدم واشنطن تنازلات للتوصل إلى هدف حرمان إيران من سلاح نووي لا تنفك تقترب من حيازته. والأكيد أن أي نجاح إيراني، ولو جزئياً، يعني لبكين وموسكو كثيراً من المصالح في سورية والعراق ولبنان وحتى في اليمن.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»