بكل أسف أقولها ما زال هناك بيننا من يمتعض باليوم الوطني رغم كل ما يقدمه الوطن من أمان واستقرار، لا حجة له في ذلك إلا الاعتراض على ضرائب مخالفاته اليومية أو تجاوزاته القانونية أو ما يخفيه ولا يبديه من انتماءات خارجية أو ميول تطرفية، بل إن البعض استبق إلى غاية التنظيم الإخواني أكثر مما وصل إليه تنظيمهم في رحلة التمرحل نحو الانسلاخ من الوطنية.

ما زال هناك من يرى أن الوطن ما هو إلا وسيلة لتضخيم ثروته وممارساته الانتهازية، وأن كل من يظهر في طريقه ما هو إلا عدو له، فيظهر في كل ساحة نقاش مبديا رأيه المعارض اقتصاديا تارةً وسياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا وترفيهيًا تارةً أخرى، وفي كل علم ومجال أوجدته البشرية ويمارس في وطنه نراه ضده، فيرى نفسه المستشار أبو العلوم الذي لم ينل فرصته من الإفتاء في شؤون البلاد والعباد !!.

وبما أنه يمارس وظيفة ودورًا لا يسمح له بالإفتاء، فهو ذاك الجاحد المحرض الذي إن كانت اللعبة هي التخريب تحاشر ليلعبها، وإن قوبل بالرفض انقلب على اللعبة ولاعبيها بالتخريب، وإن كانت اللعبة هي البناء والتطوير والازدهار اتخذ دور العقدة التي تقابل المنشار، لا شأن له في ذلك إلا كراهية متراكمة عبر القرون ورثها كابرا عن كابر حتى استوطنت نفسه.

بعض الناس للأسف لا يجيد إلا هذا الدور، فأينما وجد في مكان حل به الخراب، رؤيته في ذلك تحويل الانسجام لحالة من الفوضى والعبث، فيستمر كعادته باحثًا عن الأماكن التي يمارس فيها هذا الدور الذي يعتبره بحسب رأيه منتهى (الديمقراطية).

ولكن بما أنه فرد من أفراد الوطن فأرى ألا نتعامل معه بكل هذا الإقصاء، فلربما عاد ابنا بارا لوطنه وقد يجدي معه حينها استحداث إدارة خاصة به بمسمى «الإشغال» ليهذَب فيها دوره التخريبي ، على أن تكون السياسة العامة لهذه الإدارة هي ممارسة البيروقراطية البحتة فينشأ تحت مظلتها أقسام متعددة تتلقى قرارتها من المدير بشكل فجائي ومرتجل فما يوشك الموظف أن ينتهي من معاملة ما، إلا وأتت أختها تحمل بندا يغير ترتيب الآلية السابقة فيشلها ويوقفها، ثم يحاسب بعدها المتسبب في التقصير بـ»الإشغال الشاق».

وفي نفس الوقت تكون منظومة العمل فيها قائمة على التميز والمنافسة لكي لا تتعثر عجلتها المتأنية فينشغل كافة موظفيها بالتميز ويعم بينهم الكتمان حرصًا وخوفًا من الحسد على قضاء حوائجهم الدنيوية والأخروية، وكذلك يستحسن أن تكون إدارتها الاعتبارية من أولئك الأشخاص الذين لا يجيدون الأمور الحاسوبية ولا الحسابية حتى يغلو فيهم حب التقيد بالحرف والرقم فتنشأ لأجل ذلك العديد من الفجوات والتي لا مجال لحلها إلا بالمبادرات التي تصبح حبل الوصل بين الموظف وإداراته العليا كمكافأة للمتميز بإنجازه في الوصول إلى المسؤول الذي يشرف عليه، كما تقول نجاة الصغيرة في أغنيتها «كم قلت أني غير عائدة له، ورجعت، ما أحلى الرجوع إليه..»، وهكذا حتى تردم الفجوات بالحلول ثم تعاد الهيكلة من جديد تكريما لأصحاب مبادرات سد الفجوات الذين شكروا وقدروا بالشهادات والتغريدات وهنأ الجمع الغفير ذلك المدير.

على الأكيد أنك عزيزي القارئ لن تصدق هذا الحل البيروقراطي المسمى (الإشغال) ولكن كل ما هنالك هو السخرية من مواقف بعض البشر حيث لم توجد البشرية حتى الآن حلًا للحماقة سوى السخرية منها، وما أقبح أن يكون بيننا ذلك المواطن الذي يظهر ساخطا متذمرا تحت كنف دولة كرمته وأعزته وإذا به ينقلب ضدها متآمرًا ومحرضا.

يقول المتنبي في بيته الشهير:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ولعل مفتقري الوطنية عن لؤمهم يتراجعون ومن غفلتهم يستيقظون ولربهم يشكرون ولوطنهم يعودون.