يحاول الباحثون في عقدنا الحالي التعرف على الأنماط التشغيلية القادمة في المؤسسات التي ستفرزها المهن الجديدة الناتجة عن صناعات جديدة وخدمات مستحدثة. ومما أمكن التعرف عليه حتى وقتنا الحالي حول الحقبة التشغيلية القادمة العديد من الأنماط التي تندرج جميعها تحت اختصاص «الذكاء الاصطناعي»، الذي سيلعب الدور الأول والأبرز والأهم في تشغيل قطاعي الصناعة والخدمات في القرن الحالي.

فالتخصصات الإدارية الناتجة إذًا عن هذا التحوّل التاريخي، الذي بتنا في قلبه اليوم، هي تخصصات ستتعاطى بشكل أساسي وواسع مع روح هذا العصر الجديد، وستكون تخصصات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالحاجة إلى تشغيل الآلة على المستوى التطبيقي الشامل من جهة، ومن جهة أخرى على مستوى التحسين والتطوير.

وانطلاقا من تلك الحاجات، فإن الإداري الذي نعرفه بنمطه التقليدي، الممتد على ما يربو على قرنين من الزمان، والذي لطالما انشغل بالدفاتر والملفات، ولاحقا عبر جهاز الحاسوب الذي استطاع من خلاله التحكم في مجريات العمل اليومية - سيتعامل في المستقبل مع موظفين من الآلات، وهؤلاء الموظفون سيتطلبون أنماطا جديدة من العمل الإداري، حيث ستكون مفردات الإدارة جديدة كليا، وسيتبع ذلك تغيّر في مفاهيمها ونظرياتها، وصولا إلى إفراز أدبيات إدارية جديدة كليا، ستجعل من آلاف الكتب التي تم إنتاجها في مجال الإدارة عبر القرن العشرين، على الأقل، إنتاجا تاريخيا يشبه إنتاج العصور القديمة من المخطوطات العلمية.

وبما أننا نسير في اتجاه جديد كليا، ونلامس كل هذا التحوّل التاريخي غير المسبوق من خلال دخول الآلة الذكية اليوم على خط التشغيل بقدرٍ لا بأس به، فإن التحوّلات في إطار تمكين الآلة الذكية من تشكيل القوة العاملة العالمية لا يمكن إنكار كونها تحوّلات سريعة جدا، وهي بدورها تلقي ظلالا على مستقبل تشغيل الإنسان، لكن أصحاب الشركات العالمية الذين يوظفون مئات آلاف الموظفين من المحتمل أنهم سيكونون أصحاب التغيير الأوائل بعالم الإدارة في عصر ما بعد الإنسان.

الإدارة الجديدة ستكون إدارة لا عصا ولا جزرة فيها، فأباطرة المال سيجنون عبر تلك الإدارة الذكية أضعاف ما يجنونه اليوم عبر الاستغناء عن مئات آلاف الموظفين، وبيع المنتجات لمزيد من الملايين من البشر. ومن أجل هذا، فإن القواعد الأولى لذلك النمط الإداري قد تم وضعها بالفعل، وهي قواعد لا رواتب فيها ولا حوافز. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن اليوم: هل مملكتنا مقبلة على تغيّر من هذا النوع؟.

يمكن القول بثقة إن هذا التحوّل الإداري الجديد لن يطال أغلب الدول، ومن المرجح أن هذا النمط من الإدارة سيكون مقصورا بشكل خاص على المؤسسات الكبرى عالميا ومحليا في كل دولة، ولهذا فليس من المرجح، بدرجة كبيرة، أن تشهد المملكة تحوّلا جذريا في النمط الإداري للمؤسسات، على الرغم من أن مؤسساتها الكبرى في القطاع الخاص قد تكون، وبدرجة كبيرة، جزءا من إدارة ما بعد الإنسان.