يُقدم، في العقود الأخيرة، بعض الكُتاب والمثقفين والأدباء بصفتهم «تنويريين» أو «مجددين»، وتوضع أعمالهم في خانة: تجديد الخطاب، والتنوير، ونقد الخطاب.. إلخ. ولا شك هناك أعمال نقدية وأفكار تنويرية تستحق التقدير والاحترام، وهناك أيضا ما يجب أن نسلط عليها الضوء، لأنها تحمل في حقيقة الأمر نزعة شعوبية، خفية أحيانا، ومتغطية بغطاء النقد والتجديد والتنوير، وأحيانا أخرى مباشرة في شعوبيتها، وواضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، وغالب كتابات الكاتب العراقي علي الوردي ذات طابع شعوبي صريح ومباشر لا مواربة فيه. يقول الدكتور عبدالرزاق محيي الدين، وهو أحد أعلام الفكر والثقافة والتربية في العراق الحديث، متحدثا عن أعمال علي الوردي الفكرية: «لكن مشاكل الوردي، في الآونة الأخيرة، انصبت بشكل حملات على الأدب والآداب واللغة واللغويين، وعلى تاريخ العرب والمسلمين، ونقد أغلب المخلفات الاجتماعية، في إلحاح وحماسة شديدين، وفي تعميم قد يتجاوز به حدود القصد».

لن نتحدث عن الشعوبية القديمة التي ازدهرت في العصر العباسي، فهي معروفة التاريخ والجذور والدوافع، ولا حاجة لطرح المزيد عنها، لذلك سيقتصر الحديث عن الشعوبية المعاصرة، وتبين ملامحها وطريقة تفكير أصحابها، حيث أصبح هذا الشكل من الشعوبية من أسوأ الأمراض الاجتماعية في المجتمعات العربية الحديثة. وبحكم أن الشعوبية الحديثة ليست مذهبا أو طائفة دينية، وإنما هي نزعة أكثر من كونها عقيدة، لذا لا نستطيع حصر أصحاب هذه النزعة، فهم موجودون في كل بلد، وينتمون لكل عرقية وديانة، ولكن نستطيع تمييزهم من خلال بعض الأطروحات التي تركز على الثقافة العربية، وما تحمله من قيم، وما تقدسه من أوامر ربانية، وما تنتجه من آداب وأشعار بأنها سبب لانحطاط العرب والمسلمين في العصر الحديث. يقول عبدالرزاق محيي الدين، طارحا ملاحظة غاية في الأهمية عن أفكار «الوردي»: «وصمه أدباء العربية، وشعراؤهم خاصة، بالسير في ركاب الظالمين، والتغني بمدائح العتاة المتجبرين، واتهام الشعر بالظهور مظهر الشذوذ الجنسي، ثم الدعوة إلى رفض هذا الأدب بجملته، وتزهيد شأنه وتحقيره في عيون الناس».

أطروحات «الوردي» عن الأدب العربي نستطيع أن نلحظها في أطروحات كُتاب ومثقفين اليوم، فهناك بعض المقالات التي تحاول أن تربط بين الأعمال الإرهابية اليوم وبين قصائد لشعراء عاشوا في العصر الجاهلي والأموي والعباسي، وتبحث عن أصول للتمييز ضد المرأة في كتب التراث العربي، وفي قصائد الشعراء المخضرمين، وتنسب قلة تسامح الشعوب العربية المعاصرة - كما تعتقد - لكتب التراث، وما تحمله من تعاليم وقيم تنبذ التعددية الثقافية والتسامح مع الآخر، كما يقولون. كل هذه الأطروحات، ذات النزعة الشعوبية، تُقدم اليوم بطابع التنوير والتجديد والمعاصرة، ونبذ التقليد ومواكبة العصر والحداثة، وأي مطلع على الحركة الثقافية والفكرية في العالم العربي يستطيع تمييزها بيسر وسهولة.


إن أشكال الشعوبية، بين اليوم والأمس، وإن اتفقت في محاولتها تعزيز الطور القومي على حساب الأطوار الحضارية الأخرى، لكن دوافعها متباينة ولها جذور مختلفة، فشعوبية اليوم ليست لها أي دوافع عرقية كما أسلفنا، حيث إن التحيز العرقي لا يلعب دورا ملموسا في إثارة أنصارها ومفكريها، بعكس الشعوبية القديمة التي يمثل الدافع العرقي جانبا جوهريا في تمركزها وسط حركية المجتمع. وهنا يتبارد للذهن السؤال التالي: هل تسعى الشعوبية المعاصرة لتكوين حركة ارتدادية تلغي الانتماء للسان العربي، بصفته هوية مشتركة توحد الشعوب العربية؟، فعلاقة الانتماء العربية ذات مضمون لساني - لغوي، وليس عرقيا، وهذا ما جعل صاحبنا «الوردي» يقدم نفسه بصفة «المصلح للغة والإملاء»، ودعوته معروفة لتبسيط اللغة وتراكيبها، رأفة بعامة الناس الذين لا يحسنون اللغة البلاغية المعقدة. دعوة «الوردي» للتيسير نعرف جميعا نهايتها، فهي دعوة غير مباشرة لاعتماد العامية الدارجة.

هل يوجد وسط الحركة الثقافية والفكرية اليوم نزعة شعوبية تقدم نفسها تحت مسميات «التنوير» و«التجديد»؟. إن أغلب الثنائيات المطروحة في الساحة الثقافية مثل ثنائية التقليد والمعاصرة، والقديم والجديد، والتراث والحداثة، وتحمل شعار «نقد التراث»، هي في حقيقة الأمر نزاع حول الهوية العربية تحديدا، أو بمعنى آخر نحن أمام صراع شعوبي جديد يحمل صفات جديدة، يجب أن نتنبه لها، ونميزها عن أي أفكار تنويرية حقيقية، ونطرح الأسئلة النقدية عن أسباب نشوء مثل هذه النزعة التي تقدم الأدب العربي بصورة الأدب المنحط، الذي يدعو إلى العنف والتطرف وتحقير المرأة، وترفض تراث اللغة العربية، لأنه تراث بالٍ، لم يعد يواكب العصر الحديث.