كتبت مقالا قبل سنوات بجريدة عكاظ عن معرض الكتاب كان عنوانة «معرض الكتاب والشلة»، كان يتحث عن الكثير من التحديات التي واجهها المعرض عبر سنوات من الإدارة التي اجتهد البعض فيها، وأتذكر أن مسؤولا عن المعرض رد عليّ بصفحة كاملة في جريدة.

الأهم اليوم أننا تخلصنا من الشلة، وها أنتم رأيتم الفرق بأعينكم عندما أُسند العمل لفريق وجهة جديدة وقلبت الصفحة فلا مناص من الاعتراف بأن معرض الكتاب هذه السنة جاء متميزا بكل المقاييس، سواء تعلق الأمر بالتنظيم المحكم وتقنيات العرض الجديدة أو بحجم المشاركة «ألف دار نشر و28 دولة» أو حتى نوعية وحجم الإقبال.

لقد نجحت وزارة الثقافة وهيئة الأدب والترجمة والنشر في نقل هذه المناسبة الفريدة إلى حدث ثقافي وفكري كبير عالي المستويين السعودي والعربي.

لقد انتهت تلك الحقبة التي كان وصول الكتاب متعذرا في المملكة، والرقابة مسلطة على المنشورات الفكرية الحداثية والتنويرية، كما انتهى الزمن الذي كان فيه السعودي مجرد قارئ مستهلك للثقافة.. الكتب اليوم في مختلف فروع المعرفة متاحة للجميع، ودور النشر السعودية تتصدر مؤسسات النشر العربية، والمؤلف السعودي، سواء كان مبدعا أو مفكرا في مقدمة الركب.

ليست هذه المعطيات مجرد صدفة، بل هي حصيلة مسار كامل من السياسات الثقافية التجديدية والإصلاحية غيرت تركيبة الحقل الفكري والأدبي السعودي.

كان المثقف من قبل يعاني أشد المعاناة حتى يتسلل بكتاب فكري نقدي أو تنويري من بيروت أو القاهرة، ولم يكن يسلم من مقص الرقابة سوى الكتب التراثية وكتب الإسلام السياسي أيام القبضة الإخوانية على التعليم والإعلام، ونتيجة لهذه القيود القاهرة تم تنميط وتعليب المادة الثقافية المعروضة للقارئ، وغاب الوعي النقدي والنفس التحديثي.

المفاجأة السعيدة أن عددا من دور النشر السعودية عرضت لنا هذه السنة أحدث وأعمق الإصدارات الفلسفية مؤلفة ومترجمة، كما وفرت لنا أعمال كبار المفكرين العرب والعالميين، لقد فند معرض الرياض مصادرتين سائدتين على نطاق واسع، وهما: أن العرب لا يقرأون وأن صناعة الكتاب في انحسار.

فرغم جائحة الكورونا، توطدت حركة النشر السعودية والعربية، وظهر إقبال عارم على معرض الرياض الذي يتفق الناشرون على أنه أهم معرض عربي، بل إن مبيعاته تعادل مبيعات كل المعارض العربية مجتمعة. معرض الرياض هو إحدى الواجهات المشعة في السعودية الجديدة، وهو مظهر بارز للنهضة الكبرى التي تعيشها البلاد راهنا.. إن علاقة النهوض الفكري بصناعة الكتب وتوزيعه بديهية، تظهر في مستويين بارزين:

- يشكل الكتاب المنتج الثقافي الأهم، بالمقارنة مع أدوات الإنتاج الثقافي الأخرى، بما فيها المنتجات الرقمية التي يكثر الحديث عنها حاليا.

بطبيعة الأمر ليس النشر التقليدي المتمثل في الطباعة الورقية سوى صيغة من بين صيغ أخرى لإعداد الكتب وتوزيعها، ومن هنا فإن النشرالإلكتروني ذاته فرصة لتكثيف ودفع نشر الكتاب، وليس عائقا يعوق صناعة الكتاب ونشره.

- لقد قامت كل النهضات العالمية الكبرى على الكتب المؤسسة، وفي مقدمتها الثقافات التي تأسست على مركزية الكتاب، وأعني هنا بطبيعة الحال الحضارات المنبثقة من الديانات التوحيدية التي هي ديانات كتابية. يتفق المؤرخون على أن حركة الإصلاح الديني في أوروبا هي نتاج اكتشاف المطبعة الذي أدخل الكتاب المقدس إلى كل البيوت وألغى الدور الرقابي التحكمي للمؤسسة الكنسية على عقول الناس، وكما يرى الفيلسوف ريجيس دوبريه يعادل دور المطبعة اكتشاف الكتابة 3500 سنة قبل المسيح الذي رفع قدرات البشر على التجريد والتفكير الحر، وأضعف الديانات الوثنية المادية.

ـ السعودية الجديدة تحتفي بالكتاب وتضعه في أولويات خطة النهوض الوطنية الكبرى، وهو ما يفسر في إطار مشروع التجديد والإصلاح الذي غير جوهريا تركيبة المجتمع السعودي في أبعاده المختلفة.