للكاتب العراقي علي الوردي كتاب يعد من أوضح الأمثلة على الكتب ذات النزعة الشعوبية، فكما يتضح من عنوانه «أسطورة الأدب الرفيع» الذي يعني أن وجود أدب رفيع عند العرب ليس إلا أسطورة، أي أن العرب ليس لديهم أدب رفيع، وطرح فيه أحد حججه الساذجة، وهي أن الشعر العربي يرسخ للشذوذ الجنسي.

ولا ندري لماذا يركز علي الوردي على ظاهرة الانحرافات الجنسية في المجتمع، ولماذا يريد إسقاطها على الثقافة العربية، فهو أيضا في كتابه الآخر «وعاظ السلاطين» أراد أن يلمح إلى أن قيم المجتمعات العربية المتعلقة بالحجاب كانت سببا للانحرافات الجنسية في المجتمع.

ويؤكد أن نسبة الانحرافات الجنسية في البلدان الأوروبية أقل منها في الدول الشرقية، والسبب كما يقول هو عادة الحجاب، كلام في الحقيقة لا يصدر حتى من الأطفال لشدة سذاجته وتساهله في إطلاق الأحكام دون تفكّر.

طبعا إحصائية علي الوردي ليس لها أي دليل علمي، وتخلو خلوا تاما من الموضوعية، ولا يمكن أن يكون دافعها تنويري أو إصلاحي، وليس لها أي دافع غير النزعة الشعوبية التي أشرنا لها في مقال سابق يحمل عنوان «شعوبية علي الوردي»، وقد طرحنا اسم علي الوردي كونه نموذجا واضحا للشعوبية المباشرة عند فئة من المثقفين العرب، فشعوبية علي الوردي طافحة ورائحتها تزكم الأنوف، ونحن نريد أن نقدمها بصفتها ظاهرة تحتاج فعلا للدراسة والبحث.

دعونا نطرح اسم المفكر المصري عبدالوهاب المسيري، وهو مثقف حقيقي ومفكر موضوعي لا يحمل أي نزعة شعوبية، وقد تناول في إحدى محاضراته موضوع الانحرافات الجنسية في المجتمع من زاوية أخرى وبشكل موضوعي نابع عن رؤية ثاقبة وتحليل عميق، حيث يقول عن هذه الظاهرة: «عندما نشاهد نمط العلاقات الجنسية لشعوب الحضارة الغربية تأكد أن هذا النمط ليس له علاقة بالجنس فقط، ولا يمكن أن نفسرها بمعزل عن البعد المعرفي».

ففي هذه المحاضرات تحدث المسيري عن البعد المعرفي لهذه الظاهرة، فقد أثارت تساؤله عندما كان طالبا في الولايات المتحدة، وسماعه لكثير من أخبار الاغتصاب المتكررة، مع أن ثقافة المجتمع متحررة من أي قيود اجتماعية بين الذكر والأنثى، وهو يطرح تساؤلا هنا: لماذا تكثر حالات الاغتصاب في مجتمع خال تماما من القيود؟ يقول المسيري بتصرف: «الملذات في حد ذاتها هي عبارة عن لغة هروب الإنسان من العدمية الفلسفية المحيطة به»، فقد تنبأ المسيري قبل سنوات طويلة بهذه الثورة المثلية التي يعيشها العالم اليوم، ومحاولة تطبيعها في المسلسلات التليفزيونية والأفلام السينمائية، وهي ثورة لا علاقة لها بالحجاب إطلاقا -كما يعتقد الوردي- ولكنها رؤية معرفية فلسفية نتيجة للعدمية الأخلاقية التي لا تؤمن بأي معايير أخلاقية أو دينية.

يضيف المسيري قائلا: «أعتقد أن الشذوذ هو النتيجة المنطقية والترجمة الأمينة لمبدأ اللذة النفعي»، فقد كان المسيري يعتقد أن هذه الظاهرة نتيجة طبيعية للمادية المتطرفة التي أبتلي بها العالم الحديث. وبحكم تخصص علي الوردي في علم الاجتماع، وتقديمه نفسه بصفته ناقدا اجتماعيا يعالج أمراض المجتمع، فإنه غفل أو تغافل عن ظاهرة اجتماعية ملازمة لكل حضارة إنسانية وهي «البوهيمية»، ظاهرة تستحق الدراسة والبحث.

ففي كتابه «أبو نواس» يصفها عباس محمود العقاد بقوله: «والبوهيمية بعاداتها وأساليبها معروفة لم تتغير منذ تسربت إلى بلاد الحضارة، وأولها التشرد وقلة المبالاة بالعرف الاجتماعي، وطلب الكسب اختطافا أو اختلاسا أو متاجرة باللذات والشهوات حيثما اتفقت»، ويضيف العقاد قائلا عنهم: «ويجرون على عاداتهم التي تلخصها كما أسلفنا كلمتان: التشرد والتحلل من عرف المجتمع وآداب الحضارة».

تلقي البوهيمية بظلالها على عالم الأدب والفن، وتؤسس له مذاهب أدبية تميزها عن معايير وقيم الأدب الشائع داخل مجتمع الحضارة.

نجد حالة شبيهة في العصر الجاهلي في شعراء يعرفون «بالصعاليك» يحملون ثقافة حرة غير مقيدة بأي قيد مجتمعي، ولا يحتكمون لأي مٌثٌل أو ضوابط اجتماعية، ونجدها في عصر الحضارة العباسية في الفئة التي عرفت باسم الشطار وفي شعر الخمريات والتمرد على نمط القصيدة التقليدي.

ويعد أبو نواس أشهر شخصية أدبية تمثل هذا التيار الأدبي، ولكن ليس من المنطق اعتبار حالة أبي نواس ظاهرة تشمل آداب المجتمع بأكمله وقيمه ومعاييره، فحالة الصعلكة والتشرد والخروج عن قيم المجتمع السائدة لازمت نشوء الحضارات، وعاشت على هامش المجتمعات، ولها أسلوب خاص في نتاجها الأدبي والفني الذي يتميز بتمرده على أعراف وتقاليد المجتمع الذي يعيشون بين أفراده.

كانت دراسة المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد عن حالة أبي نواس في غاية الجمال والعمق، لأنها نابعة عن مثقف حقيقي غير مكبل بقيود الشعوبية وأمراضها المزمنة، فالربط بين البوهيمية في الأدب وبين حالة أبي نواس، كان ربطا ذكيا وموضوعيا يعكس عمق التحليل ومقدار إجادته في سبر أغوار شخصية مثيرة للجدل كأبي نواس.