هناك وجهان سلبيان من أوجه «المثقف» وهما «مثقف السلطة ومثقف المعارضة» مما ليس له علاقة بما نحاول الاصطلاح عليه ونسميه «مثقف الدولة» فالدلالة المختزلة في أدبيات «اليسار» لها جذورها، التي لها الحق في احتقار «مثقف السلطة» ولكنها لا تلغي السلطة المعرفية للمثقف، باعتباره «مثقف دولة» ومن يخلط بين المعنيين يريدنا أن نجعل هذه الأسماء، بكل إنجازها الفكري والأدبي في مزبلة التاريخ، لمجرد أنهم «مثقفو دولة» أمثال «توماس هوبز، جيرمي بنثام، مونتسكيو، طه حسين، عبدالله العروي، غازي القصيبي، محمد جابر الأنصاري، تركي الحمد» والأسماء لا تنتهي، فالمثقف الحقيقي لا يعيش في منطقة «معارضة الدولة» لكنه قد لا يتفق أحياناً مع بعض تشكلات مراكز القوى داخل الدولة، خوفاً على مفهوم «المواطنة» من تغول أحد مكوناتها على البقية.

معظم أدبيات الخمسينيات والستينيات في «المثقف اليساري» لم يعد لها مكان في القرن الحادي والعشرين، ولا يؤمن بها إلا من تجاوزه التاريخ، فحتى مصطلح «النضال المسلح» في زمننا هذا ليس إلا إرهابا.

ولهذا لا تعارض بين ما ذكر أعلاه وما نسب لإدوارد سعيد عن «مثقف السلطة»، فحتى نعوم تشومسكي ينتقد كثيرا، من توجهات بعض مراكز القوى في السلطة الأمريكية، في مراحل تاريخية كثيرة، لكن تشومسكي يبقى «مثقف الدولة» فهو: «العالم الذي يعمل في خدمة الأبحاث العسكرية للجيش الأمريكي، وهو الناشط السياسي المعادي للهيمنة الأمريكية» راجع كتاب كريس نايت «تفكيك تشومسكي».

وعليه فإن «مثقف الدولة» في تعارض تام مع «مثقف السلطة»، فالدول تنتج مثقفيها، فإذا ضاقت بهم وبطبيعتهم «الفردانية المستقلة» تحولت من كونها «دولا حديثة» تنتج مثقفيها ومفكريها، إلى كيانات تسمى «أنظمة شمولية» ينتشر فيها «مثقف السلطة» كالذباب في حظيرة الدواب، ويختفي منها «مثقف الدولة».

كيف ينزلق المثقف من منطقته الرفيعة، في كونه «مثقف دولة» إلى المنطقة الرديئة باعتباره «مثقف سلطة» ؟ والإجابة بسيطة، «مثقف الدولة» هو في حقيقته «مثقف نقدي» عنده لياقة النقد الذاتي، ومراجعة مسلماته مع انشغاله بالمستقبل، والعمل على تحرير مجتمعه وتنويره، من كل العقد المتشكلة لأسباب ما قبل الدولة «قبلية أو مذهبية أو طائفية» لينتقل بمجتمعه من «أخلاقيات القبيلة، الطائفة» التي تحتقر ما عداها إلى أخلاق «المواطن» التي ترفع هذا الاحتقار وتستبدله بالتسامح الإنساني، بينما «مثقف السلطة» مثقف «دوغمائي» سواء جاءك بلسان الغنوشي أو الترابي، أو بلسان غوبلز أو تروتسكي، فهو مشغول بكل ما يصنع «عدوا مقابلا» في الداخل والخارج.

ولهذا فمثقف السلطة هو «مثقف دوغمائي» مع مهارات ديماجوجية/‏دهمائية يبحث من خلالها عن رافعة معنوية، من مكونات خارج الدولة الحديثة، كأن يقول مثقف ما: «أنا خريج أمريكا ولكني درست على يد ابن عثيمين الحنبلي» كرافعة شعبوية، ويأتي آخر فيقول: «أما أنا فخريج أمريكا ودرست قبل ذلك على يد حسن المشاط المالكي» وثالث يقول: «تعلمت في أمريكا وقبلها حضرت الدرس على يد الزواوي الشافعي»، بالنسبة لمن يرى أنه «مثقف دولة» فلا يعنيه من هؤلاء الثلاثة سوى ما تعلموه في أفضل جامعات الغرب، ومدى استثماره في «تنمية الدولة الحديثة» أما دراستهم الدينية فهي لهم مع الله، ولهذا فمثقف السلطة قد يخلط مكونات ما قبل «دولة المواطن» بمعنى المواطنة، ليفرض أجندة لا علاقة لها بقوة المثقف، التي يستمدها من «سلطة المعرفة» بشكل موضوعي بعيداً عن إفعوانيات «مثقف السلطة» في استمداد قوته من «معرفة السلطة».

وأخيراً هذا النقاش لا علاقة له بأي شخص يملك رصيداً من المعلومات، ويعتبر نفسه «مثقف معارضة منشقا» بينما هو في الحقيقة الوجه الآخر لما يسمى «مثقف السلطة» فكلاهما أسير أيديولوجيا دوغمائية، إحداها تعمل لمكون شبه حزبي داخلي، والثانية تعمل لمكون حزبي خارجي، أما «مثقف الدولة» فيعمل لصالح «المستقبل» الذي يتخيله لوطنه لتصبح الدولة أكثر قوة، في جميع الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق المعايير العالمية.

وأخيراً «مثقف الدولة» عقلاني واقعي يبذل كل حياته الفكرية، من أجل مستقبل أفضل لأبناء وطنه، أما «مثقف السلطة أو المعارضة» فمهووس بالمكاسب الذاتية، التي تشفي طمعه أو غروره الفكري الدوغمائي، ولهذا فمثقف الدولة مثله مثل «رجل الدولة» اسم ثابت ثبات دولته في التاريخ، أما مثقف السلطة أو المعارضة فمثلهما مثل «موظف السلطة» في كل مكان، يتغير بتغير مراكز القوى، في أي دولة حول العالم، و «النوايا مطايا» «ولكل امرئ ما نوى» في هجرته الثقافية.