أكثر ما اتضح في الانتخابات العراقية وفي أحداث بيروت أن مصير المشروع الإيراني مرتبط بتحطيم «الدولة الوطنية»، فكرة ومنطقاً وهياكل ومؤسسات وقوانين. أي وجود أو صمود لهذه الدولة، بعد كل ما تعرضت له على أيدي الوكلاء والأدوات، يعني أن المشروع لم يكتمل ولا يزال مهدداً. لم تواجه إيران أي تحد في سورية لأنها تعاملت مع نظام متماه مع نظامها لا يعترف إلا بآلة القتل التي أقامها ويطبق «قوانينها» وبمقدار ما تضعف الدولة ويقوى النظام بمقدار ما تعتبر إيران أن ثمة ضمانات لإدامة نفوذها. ولا شك أنها تعتبر تجربتها في اليمن «نموذجاً» ناجحاً إذ أدارت عصابة الحوثيين وقادتها إلى تحقيق الأهداف المرسومة، من إطاحة الدولة إلى تفتيت الجيش إلى شعب يعاني الفقر والإذلال. أما في لبنان والعراق فثمة صعوبات وإشكالات تنبهت إليها إيران بمحاولة استقطاب سائر المكونات (غير الشيعية)، غير أن نمط التسويات والاستتباع، بالترهيب والتدجين وتغذية الفساد، يفلح إلى حين ولا يمكن أن يدوم.

لم تتأخر ميليشيات العراق، بعد الصفعة التي تلقتها في الانتخابات العراقية، في رفض النتائج الأولية، ولم يعنها أن ناخبيها في 2018 أرادوا معاقبتها في 2021، سواء بالذهاب إلى جهة محترقة سياسياً كنوري المالكي أو إلى جهة متقلبة كتيار مقتدى الصدر لكنها تتظاهر حالياً بدعم الدولة وجيشها. وعلى الرغم من أن بيانات الميليشيات المهزومة حاولت أن تكون «سياسية» إلا أن مجرد عدم قبولها النتائج كان تلويحاً واضحاً باستخدام العنف لـ«تصويب» ما لا يمكن تصويبه، فبيئتها الحاضنة تتحمل تبعات استثمارها في التوتير والتصعيد، وباتت تحملها مسؤولية معاناتها الاقتصادية. لكن الميليشيات ادعت حصول تزوير وتحايل لاتهام الحكومة بأنها دبرت عملية إسقاطها انتخابياً بعدما فشلت في إسقاطها ميدانياً، وبالتالي فإنها تخييرها بين تغيير النتائج لزيادة عدد مقاعدها في البرلمان والذهاب إلى مواجهة قتالية.

تأكيداً لهذا التوجه عاودت الميليشيات مهاجمة القوافل العسكرية للتحالف الدولي، وافتعلت ذرائع أمنية لارتكاب تعديات في بعض المناطق، كالطارمية شمالي بغداد، للعب على إثارة الاحتقان المذهبي. وإذ ربط الوسط السياسي هذه التحركات بالخلاف على نتائج الانتخابات، فإن الميليشيات تثبت في الوقت نفسه أن الحكومة الحالية استطاعت بنهجها الهادئ أن تحدث فارقاً ولو بسيطاً لمصلحة الدولة. هناك اقتناع عام بأن القوات الحكومية قادرة على خوض أي مواجهة، لكنها لا تريد إعطاء الميليشيات فرصة إشعال حرب أهلية، لذا تفضل استبعادها وترك الحكومة تبني على مخرجات الانتخابات، حتى لو اضطرت للانحناء أمام الاستقواء عليها أو حتى لـ«تغيير» بعض النتائج لمصلحة ميليشيات لم تكن صالحة في الأساس للمشاركة في الانتخابات، طالما أنها ترفض أصلاً وجود الدولة.

أي مراقب في لبنان لعمليات الشحن والتهديد والاستفزاز التي مارسها الأمين العام لـ«حزب إيران/‏ حزب الله» ومرؤوسوه ضد التحقيق في انفجار/‏ تفجير مرفأ بيروت والمحقق العدلي، ثم الدعوة إلى التظاهر للمطالبة بإقالة القاضي طارق البيطار... كان لا بد أن يتوقع تفجراً ما لهذا الاحتقان السياسي- الأمني، سواء بحادث عرضي أو بمواجهة مع قوى الأمن أو باحتكاك بين مناصري «الحزب» و«حركة أمل» والمؤيدين لاستمرار التحقيق، بعد مضي أكثر من أربعة عشر شهراً على جريمة المرفأ. كان «الحزب» أشهر «الفيتو» على أي تحقيق دولي، وها هو يرفض التحقيق المحلي ما لم يخضع لشروطه، لكن مسيرة هذا «الحزب» وصولاً إلى الهيمنة على الدولة بنيت على معايير كلها خارج الدستور والقوانين والأعراف. ولم يعد خافياً أنه يخوض هذه المعركة ليجهض مسبقاً إعلان حقائق الانفجار التي يتردد أنها ستظهر تورطه في تخزين أطنان نيترات الأمونيوم واستخدامه كميات من هذه المادة شديدة الخطورة، فضلاً عن تغطيته النظام السوري الذي كان استجلبها إلى مرفأ بيروت. لكنها أيضاً معركة للإجهاز على القضاء كسلطة اخترقها كسواها ولم يستكمل إخضاعها بعد.

ما من أحد تخيل مسبقاً أي سيناريو للصدام الذي حصل في ضاحية بيروت لكن أسبابه كانت واضحة، بل إن «الحزب» نفسه استدرجه عندما دفع بمجموعات من المتظاهرين إلى منطقة مسيحية (عين الرمانة) سبق أن حصلت احتكاكات بينها وبين منطقة شيعية متاخمة (الشياح) في العامين الماضيين، عدا أنهما شكلتا الجبهة الأولى والأكثر شهرة وشراسة خلال الحرب الأهلية. كانت مآسي انفجار المرفأ خلقت حالاً من التضامن الأهلي التلقائي، لكن الانقسام السياسي وضغوطه على التحقيق راحت مع الوقت تزرع أنماطاً من التمييز اللاأخلاقي واللاإنساني واللاوطني، وكأن المرفأ ليس لبنانياً بل منطقة مسيحية أو كأن المتضررين بالانفجار مسيحيون برغم وجود مسلمين بينهم. لكن هذا المنطق السقيم كان يؤسس للتفريق الطائفي بين أهالي الضحايا ولما بات يقال اليوم من أن التحقيق يهم المسيحيين وحدهم، وأن مضيه إلى الحقيقة وكشف دور «حزب إيران» يعني العودة إلى الحرب الأهلية.

عندما تعجز الدولة عن معالجة أي مأزق، بالقانون أو بالسياسة أو بهما معاً، تكون قد دعت بنفسها الشارع إلى التدخل. فالدولة هنا منقسمة ومسلوبة الهيبة والإرادة، والسلطة الأمنية مكبلة بانتماءات أفرادها المتناقضة، والحكومة مائعة ومفككة إلى حد أن «وزير الثقافة» (وهو قاض؟!) يكلف بإبلاغها إملاءات زعيم «الحزب» حسن نصر الله بوجوب إقالة قاضي التحقيق بلا تردد، تحت طائلة إسقاطها. أوقفت الحكومة اجتماعاتها للبحث عن مخارج، واغتاظ «الحزب» لأنها لم ترضخ لأمره فأمر شارعه بالخروج للضغط عليها. يعتبر نصر الله أن هذه الحكومة ما كانت لتوجد لولا أنه أعطى الضوء الأخضر لولادتها، لكنه يتجاهل أنها ملزمة داخلياً وخارجياً باحترام القضاء، والأكيد أنه و«حزبه» ارتكبا بتخزين النيترات جرماً أصبح جريمة بعد انفجارها، وارتكبا سلسلة من أخطاء فادحة في مقاربة هذه القضية منذ بدايتها، وأكثر فداحةً في إدارة المشكلة مع التحقيق والقضاء، وأكثر فظاعةً في الاستخفاف بمطلب إظهار الحقيقة.

الصراع على القضاء في لبنان هو الجزء المرئي من جبل الجليد، وإذا انتصرت فيه ميليشيا «حزب إيران» فإن هدفها التالي سيكون السيطرة الكاملة على الجيش اللبناني. والصراع على نتائج الانتخابات في العراق يتعلق بمستقبل الميليشيات بعد الانسحاب الأمريكي. الخطورة أن سطوة إيران وأتباعها لا يمكن أن تنكفئ من تلقائها ولا تعترف بالوسائل السياسية والسلمية لأي تغيير أو إصلاح من طريق الانتخابات أو المؤسسات، فمنطقها الدائم هو سيطرة الميليشيات وتحدي منطق الدولة.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»