هذا موضوع طرقه أكثر من ناقد قديماً وحديثاً وأفردوا له كتباً ومقالات واعتبروا أن التكسب بالشعر في العصر الجاهلي ظاهرة، ولا أتفق معهم في هذا المنحى بتاتاً،ذلك أن العرب الأقحاح تأنف منه وتعتبره مثلبة، وبالتالي يحط من قدر الشاعر.

والعرب تملك ذائقة فارهة تطرب لسماع الشعر العذب القوي الذي تُنصت له الآذان وتسير به الركبان، وليس الشعر المبتذل، ومن يسبر أغوار الشعر الجاهلي يجد كثيراً من الشعراء الكبار في العصر الجاهلي نأوا بأنفسهم عن مهنة التكسب بالشعر وحافظوا على نقاء وصفاء الشعر واحترموا المتلقي فخلدهم التاريخ.

بينما نجد آخرين مدحوا ليس تكسباً وإنما تأثراً بإعمال جليلة تستحق المدح والإطراء، كمدح زهير بن أبي سلمى لهرم بن سنان والحارث بن عوف عندما أصلحا بين عبس وذبيان وتحملا ديات الحرب، ومدحُ حاتم الطائي وكرمه، ومدح الأعشى للمُحلق الكلابي في أكبر محفل بسوق عكاظ، ومدح امرئ القيس من أجاروه وأكرموه أثناء المحنة المأساوية التي مر بها.

نحن أمام شعراء كبار وشعر قوي لغة وهدف لم تلوثه مهنة التكسب بالشعر فنالوا الخلود والبقاء.

أكاد أجزم أن ظاهرة التكسب بالشعر في العهد الجاهلي معدومة أو تكاد، وبقي الشعر طرياً نقيا، منذُ أن كان حُداء على وقع إخفاق الجمال على الرمال.

أما في العصر الأموي والعباسي فهو بحق ظاهرة وحاضر بقوة والعتب والملامة تقع على الخلفاء الذين فتحوا أبواب المدح وإغداق الهبات على الشعراء فأفسدوا الذائقة الشعرية وخبت جذوة الإبداع، وأصبح الشعر باهتاً لا يحمل مضامين وروئ وأخيلة جميلة أثرهذا الواقع على عطاء الشعراء وسلب منهم ثراء وصدق التعبير وبهاء المفرده فلم يخلدهم الزمان ولم يطرب لهم المكان.

والغريب أن شاعراً كبيراً كالمتنبي لم يسلم منها فقد وقع في حبائلها، ولا نجد له عذراً على هذا السلوك الذي يعتبر مثلباً ينال من مكانة الشاعر، فهل يا تُرى تنبه إلى واقعه قبل أن يقول هذه الأبيات؟!

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

أنام ملء جفوفي عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

أم إن ظروفاً قاسية ألجأته إلى هذا؟! أم إن بيئة هذا العصر طبعته بهذه الآفة؟!.

على أي حال سيظل المتنبي شاعراً كبيراً وحاضراً في حراكنا الثقافي.

ومن نافلة القول أرى أن التكسب بالشعر في العصر العباسي أكثر وضوحاً ولهذا لا تجد شعراء كبارا بوزن شعراء المعلقات إلا ما ندر.

بقي أن نقول سيظل هذا المصطلح ملازماً للثقافة العربية يتقد تارة ويخبو تارة أخرى.