قالوا، ويقولون، وسيقولون: «لا حاكمية إلا لله»؛ قصدهم إفراد الله بالحكم، واستمداد التشريع منه، سبحانه، وأن الحاكمية لا تجوز لأي إنسان، وأنه لا يجوز لأحد أن ينفذ حكمه في أحد، وأن هذا خاص بالله تعالى، وليس لأحد أن يشرع غير ما شرعه الله، وغير ذلك منازعة لله تعالى فيما خص به نفسه، ومن يفعله يعد كافرا، كفرا بواحا، ويستشهدون ـ مثلاـ بقوله تعالى في الآية رقم 44 من سورة المائدة: {.. فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولٰئك هم الكافرون}، ويدعون أن الذي يحكم بغير ما أنزل الله، رافض لألوهية الله، سبحانه وتعالى.

ملخص الفكرة السابقة، هو نزع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر، والتدليس على البسطاء بعدم جواز إطلاق الحاكم، على البشر، ومن حكم منهم لا عصمة له، وبالتالي تم وضع المخلوق في مقابل الخالق، وتم فتح باب مقارنة المناهج البشرية مع المنهج الرباني، وتم بالتالي إغلاق باب الاجتهاد في الشؤون الحياتية..

المهم الذي ينبغي توضيحه، ولو بشكل مختصر، هو أن «الحكم التشريعي» المتعلق بالعقيدة القائمة على التوحيد الخالص هو لله تعالى، بنص قوله، عز وجل، في الآية 57 من سورة الأنعام: {قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}، وفي ذلك إبطال للتصرفات المزعومة لآلهتم وما يعبدون، ويدخل في هذا الشأن التقرير الواضح بأن البشر مهما كانوا، لا يمكنهم تغيير السنن الكونية التي يجريها الخالق، ولا يمكنهم التمرد عليها، كما أن كل واحد منهم محاسب يوم الحساب على عمله؛ خيرا أو شرا..

من المهم ـ كذلك ـ الذي ينبغي تجليته، هو أن إطلاق «الحاكمية» على البشر، أمر جائز، ويجوز لهم الحكم، وإصدار الأحكام والتشريعات، وتشهد على ذلك النصوص القرآنية، ومنها الآية رقم 105 من سورة النساء: {إنآ أنزلنآ إليك ٱلكتٰب بٱلحق لتحكم بين ٱلناس بمآ أرىٰك ٱلله ولا تكن للخآئنين خصيماً}، وآمل عدم تجرؤ أحد، وادعاء تخصيص ذلك بالأنبياء والرسل، فهذا يرده قوله تعالى في الآية 35 من السورة المتقدمة آنفا: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً}..

أختم بأن إطلاق لفظ «الحاكم» على الله ممكن، وعلى الإمام والخليفة والأمير والرئيس والسلطان والملك ممكن أيضا، ولا تنافي بين ذلك، كسائر ما يجوز فيه الاشتراك من الألفاظ؛ فحاكمية الله تعالى حاكمية عقيدة وحاكمية حرام وحلال؛ وحاكمية البشر حاكمية تشريعات وحاكمية تصرف، ودعوى عدم جواز ذلك، فوق أنها تعطيل للعقل، كما ذكرت سابقا، هي إقحام للدين، في الصراعات السياسية، وتزييف للوعي العام، وتأليب على الحكام، وتقوية على التمرد على القوانين والأنظمة والتشريعات، وكل ما من شأنه الحفاظ على أموال الناس وأبدانها.