في محطات العمر تختلف الاهتمامات، وتنطوي صفحات معطّرة، وأخرى بالدم مقطّرة. ما كان اليوم مهما قد يكون عاديا غدا، وما كان عاديا اليوم قد يكون مهما غدا. وبحسب تبدّل الأيام ونفحاتها، تكون بصمات الدروس على صفحاتها.

الإنسان، كما قيل، مدني بطبعه، يحب العيش بين بني جنسه حتى لو اختلف بينهما اللون، وتغير منطق اللسان.

وللدروس القاسية جزء من التجارب في التعامل مع الإنسان، وهي مقدمة ومحتوى مهم في السيرة الحياتية، وما يحصل من التغيرات الجذرية نتيجة تلك الدروس، ولا سيما بعد التعلم من الأخطاء والنضج.

وبما أنني أثرت سابقا كلمة «بني الإنسان»، فلفظ «الإنسان» يطلق على الرجل والمرأة، ولا ينفرد بها أحدهما دون الآخر، وهذا من المساواة في اللغة العربية.

أعود فأقول إن تلك الدروس القاسية، التي شكلت جزءًا من حياتك، وغيّرت المفاهيم لديك، ليست بالأمر الهيّن الليّن، فأنت أصبحت شخصا متعلما وحاصلا على درجة عليا من أقوى جامعة، وهي جامعة الحياة.

ومصداقا لهذا، فإن بعض القوانين المعاصرة تقدّم الخبرة على المؤهل في المسابقات الوظيفية، باعتبارها جدارة يبنى معها الفارق في القياس. أكون صريحا، إن بعض الدروس القاسية علمتني الشيء الكثير، واستفقت من سبات بعضها بعد مرور ردح من الزمن، فاكتسبت بها مناعة عضّدتها بالفكر الاستباقي المبني على الفرضيات وعمق التساؤلات.

الدروس القاسية متعددة الألوان والأطياف في الدنيا والآخرة، وأعظمها ذلك الدرس الذي جهله الإنسان في الدنيا، وسيعرفه حقا في عرصات يوم القيامة، إذ تجد في الإجابة في الآية الكريمة {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.

أصحاب الطبع الشيطاني المتنكرون لا يفضلون التعايش طويلا مع المبدأ، فهم يسكنون عششا تذروها الرياح مع مرور الزمن، فتكتشف يوما أنك تلقنت درسا قاسيا بسبب أنك قدرت من لا يستحق، وودت من لا يود، وذللت لمتكبر، وخضعت لمتجبر، وعاظمت جاهلا، وأكبرت صاغرا، وغيرها الكثير.

إن استغلال الوقت الأمثل للتحوط من تلك الدروس يفترض أن يكون مبكرا، كما هي الحال في قياسات الأرصاد المحذرة من العواصف والفيضانات. لذلك من لا يتنبأ مبكرا تجده مع تقدم العمر، وحصوله على علامات عالية في الدروس القاسية،

يقول: لو عاد بي العمر لفعلت كذا، ولم أفعل كذا، ولكن أنّا له هذا.

وكما يقول الشيخ الطنطاوي: «أقرأ لأني كُنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثا»، وهذا يؤكد أن للحياة دروسا وعظات وعبرا تغني عن ألف كتاب وألف بحث وألف قصة ورواية، بل وتغني اللبيب عن التلبب.

إن عدم التعاطي مع الفرضيات، وتأسيس قياسات يمكن معها رسم خط العودة، ولو كان طويلا ومتعرجا، من شأنه ألا تتلقى في حياتك دروسا قاسية أو سيئة، ومن هذه الفرضيات، المثارة استباقيا، ألا ترمي بكل ثقتك للكل، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تقف في منتصف الطريق دون أن تواصل المسيرة، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تتوقع الأفضل دائما من الناس، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تبنِ مستقبل حياتك مع من يبحث عن زلاتك، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تكن عاطفيا بزيادة، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تمكث طويلا تحت مظلة يتسرب منها الماء على رأسك، فتتلقى درسا قاسيا. كما لا تستثير عداوة كل الناس مقابل إرضاء البعض، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تتدخل فيما لا يعنيك، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تمنح الفرص الإضافية لشوط باهت في الحياة، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تبنِ أحلامك الوردية وأنت تقبع خلف أسوار اليأس، فتتلقى درسا قاسيا، ولا تعشِ خيالات واهية تناهض الواقع، فتتلقى درسا قاسيا.

أخيرا.. الضمان الذهبي ضد الدروس القاسية أقولها لك، وبصراحة، هو قوة صلتك بالله (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)، و(إن الله يدافع عن الذين آمنوا).

كن مع الله يكن الله معك، وتنتهي كل رحلة بائسة ودروس قاسية مع هذه المعيّة الوفيّة.