من أكثر الشخصيات الروائية تعقيدا، وأكثرها كثافة وتنوعا في الدلالات، شخصية «مصطفى سعيد»، بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» لكاتبها الأديب السوداني الطيب صالح. عبرت هذه الشخصية المعطوبة عن عقدة الغرب، والعلاقة الشائكة بين الغرب والشرق. العلاقة المأزومة، والإشكالية التي انعكس تأثيرها في خطاب المثقفين العرب، حيث أصبحت روح الهيمنة في الثقافة الغربية تتحكم بهم كالدمى في مسرح العرائس. العلاقة مع الغرب علاقة مرضية، أصابت بدائها المثقف العربي، وجعلت لسانه يلهج دون توقف عن ترديد دعواته السرابية بالتجديد والقطيعة.

يقول الطيب صالح، على لسان إحدى شخصياته، واصفا بطل روايته المأزوم: «مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعب عقله حضارة الغرب، ولكنها حطمت قلبه». شخصية مصطفى سعيد تمثل نموذجا متخيّلا للمثقف العربي، وما يعتريه من أوجاع غائرة، أبدع الطيب صالح في توظيفها، لتكون رمزا للعلاقة الشائكة للمواطن العربي مع الغرب وحضارته ذات التأثير الساحق. مصطفى سعيد شخصية حادة الذكاء، استطاع أن يتفوق في تعليمه، ويقطع أشواطا طويلة نحو التميز والإبداع، ولكن علاقته المرضية بالغرب، كونه مصدرا لذكريات الاضطهاد والاستعمار واستنزاف خيرات الوطن، ولدت لديه حالة من الحقد، ورغبة جامحة في الانتقام، ولو بطريقة بدائية عن طريق سلاح الفحولة، فالجنس، الذي هو أوفر العلاقات الحميمية حظا، أخذ طابع التشابك الثقافي والصدام الحضاري في حالة مصطفى سعيد، فأخذ ينتقم لوطنه الذي مزقه المحتل، ويرد له الاعتبار بطريقته الخاصة.

أخذ التشابك الثقافي بين الغرب والشرق تجليات عديدة في أطروحات المثقف العربي، ذات طبيعة عصابية في غالبها، وفي حالة مصطفى سعيد تجلت صورة العلاقة التصادمية، صورة تفرغ شحناتها السالبة في الآخر، من حيث إن هذا الآخر مستعمِر سابق للأرض وناهب لخيراتها. إنها عداء للآخر قد تنقلب لحالة عكسية ذات طبيعة نكوصية، وبالتالي عصابية، تتولد عنها نظرة دونية للذات، واحتقار للتراث والتقاليد، تتجلى في شكل أزمة نفسية، تضرب الكيان الفكري والروحي للفرد، وتجعله يوجه سهام غضبه تجاه ذاته التي أصبحت موضع احتقار وازدراء، فالشخصية العصابية هنا تأخذ صورة معاكسة الاتجاه لشخصية مصطفى سعيد. إنها صورة المثقف ذي النزعة الشعوبية، فإذا كان مصطفى سعيد يفرغ حقده وغضبه تجاه الآخر، فالمثقف الشعوبي يوجه سهامه تجاه الذات، بما تتضمنه من قيم ومعتقدات وآداب وتقاليد مجتمعية.

سيكولوجية المثقف الشعوبي، وعلاقتها بالحضارة الغربية، لها أبعاد وتجليات معقدة ومتشعبة، يصعب حصرها وإمساك خيوطها المتشابكة. إنها حالة إشكالية بامتياز. أسئلة كثيرة تطرح نفسها بداهة حول هذه الإشكالية: كيف تخلقت هذه النزعة في وجدان المثقف العربي؟ هل كان الالتقاء بالثقافة الغربية هو المحفز الرئيس لتخلق هذه النزعة الشعوبية؟. الروح العدائية تجاه تراث الحضارة العربية الإسلامية ظاهرة بارزة، نستطيع التعرف على أعراضها السطحية وتجلياتها الخارجية بكل وضوح، ولكن جذورها النفسية العميقة ومنطقها الداخلي، وعلاقته بالثقافة الغربية، هي مصدر الإشكال. لهذه النزعة بنية تحتية تستند عليها، وميل لا شعوري تجاه الانفصال عن الثقافة الأم، بل وتعميق الانفصال عنها. هذه الميول الانفصالية تتزامن مع رغبة في الاتصال بالثقافة الغربية، بصفتها مصدرا جديدا للكينونة، وهي رغبة لا شعورية بطبيعة الحال، ولكن لها تجلياتها التي تظهر في كتابات بعض المثقفين العرب.

تملك الثقافة الغربية، بصفتها ثقافة مهيمنة، ترسانة هائلة من الإمكانات والوسائل، قادرة على الفتك بمنظومة القيم والعادات لأي ثقافة مضادة، وأحد أشكال قوتها الناعمة مقدرتها على اكتساب الأنصار من خارج حدودها الجغرافية بفضل ما تملكه من قدرة على الإيحاء بالتفوق، وما تحتكره من صور ومعلومات كفيلة بتحويل ملايين البشر إلى مجرد متلقين، وبالتالي هي قادرة على زرع بذور «احتقار الذات» في ثقافة الآخر. وعندما تتولد ثقافة احتقار الذات عند المثقف العربي، الذي يبدأ فعليا في اكتساب نزعة الشعوبية، لضعف أدواته النقدية في مواجهة الهيمنة الثقافية الغربية، هنا يبدأ المثقف العربي في اجترار حديثه المستهلك عن تجديد الخطاب، والقطيعة المعرفية مع الماضي، ونقد التراث.

في شخصية «مصطفى سعيد» نستطيع تمييز قدرة الثقافة المهيمنة على توليد مشاعر متضاربة من الحقد، والرغبة في الانتقام، وتمييز الأساليب التعويضية التي يمارسها مرضى العصاب الثقافي. يقول الناقد المصري رجاء النقاش، متحدثا عن أزمة مصطفى سعيد النفسية: «العلاقة بين مصطفى سعيد والفتيات الإنجليزيات الثلاث لم تتجاوز العلاقة الجسدية. لم تكن هناك بين هذه العلاقات علاقة حب حقيقية، بل كانت كلها علاقة شهوة جامحة، فالفتيات الإنجليزيات يرين في مصطفى سعيد مظهرا للقوة البدائية الوافدة من أفريقيا. إنه بالنسبة إليهن ليس إنسانا يستحق علاقة عاطفية كاملة بكل جوانبها الروحية والمادية معا، فهو كائن غريب، يحمل رائحة الشرق النفاذة، وهو حيوان أفريقي يستحق أن تلهو به هؤلاء الفتيات، ويستمتعن به فقط».