هناك حقائق واقعية تمر في حياتنا المعاصرة، وتبقى في الخفاء متوارية عن الأنظار ومستترة بكل تفاصيلها، لعل أحداً يأتي فيكشف عنها كل دقائقها ومضمراتها، بقراءات وتفسيرات جديدة، ولها من العمق والتأصيل المستمد من كل التغيرات، التي طرأت على هذا الكون المتغير شكلاً ومضموناً. وذلك الكشف عن الحقائق الواقعية المعاصرة، التي تختلف قراءات الناظرين في تفاصيلها ودقائقها والمفسرين لأحداثها، هو مسار إنساني لا يمكن أن يختلف أو يتبدل، فكل حادثة أو واقعة تمضي عليها السنون والدهور، تتغير وتتبدل بتغاير المعطيات والظروف والمتغيرات نفسها زماناً ومكاناً، التي هي أصل خلق هذا الكون. وتتأثر الوقائع والأحداث بمستويات وثقافات المفسرين لها والمؤولين لتفاصيلها ودقائقها، وذلك الاختلاف بين القراءات والتفسيرات والتأويلات، يتسع حتى يكاد يصل حد التباين والتناقض، في القراءات التي لا يمكن تفكيك تناقضاتها بعضها عن بعض. وقد يضيق ذلك الخلاف حتى لا يكاد يذكر له وجه التنافر والتباين بين ذينك التفسيرين أو التأويلين، لمن ينظر نظرة أولية إلى التفسيرين أو التأويلين لذلك الحدث، وهذه حقيقة يجدها الباحث في نفسه خلال دراساته وبحوثه وتأملاته، وما يكاد يجدها إلا ويعلم أنه لا يزال في أولى طرائق طلب العلم، وأن أمامه الكثير من المسارات كي يُلم بشيء من المعرفة والثقافة. أما من يأخذ من الشكل في العلوم قسطاً وافراً، فلن يجد ذلك في نفسه لأنه لم يذق طعم المعرفة بعدُ. وكان كثير من الأحداث والوقائع التي أبرزت كثيراً من المسائل، التي تعلقت بمسار مجتمعاتنا في السبعينيات والثمانينات والتسعينات، وخصوصاً المسائل الدينية والفكرية، مرتبطةً ارتباطاً وثيقاً بإشكالية قراءة الحدث، أو كيفية قراءة تلك الأحداث، أو كيفية فهم تلك الوقائع والأحداث، كي تفهم الأحكام والأصول والمبادئ الفقهية والشرعية ليتم الربط بينهما، ويتحقق التأويل والتكييف والتنزيل المتوافق مع المتغيرات الزمانية والمكانية، وتنتفي اللامعقولية في تلقي النتائج المستمدة من الأحكام. وأظن أنه من خلال متابعاتي وقراءاتي وحضوري لذلك التاريخ الماضي، فإن أعظم ما جعل المسارات الفكرية والدينية، تميل إلى التوقف عن الانزياح إلى المرونة المقاصدية لمبادئ الشريعة، واستمداد روحها لفهم تلك الأحداث والوقائع، وميل كثير من التيارات إلى التشدد فيما يظنونه أنه تشدد في الدين وتمسك به، هو عدم قبول تلك التيارات وقادتها القراءات المتعددة، ونبذها فكرة المتغيرات والمؤثرات التي تكون - دوماً - متلاحمة وملتصقة بفهم النصوص، وتحقيق التأويل، وإرساء التفسيرات لكل الأحداث والوقائع، المرتبطة بحياة الناس في كل وقت وزمان. وهذه الفكرة التي هي تعدد القراءات والتفسيرات للأحداث، والوقائع المرتبطة بالنصوص التشريعية، كانت موجودة قديمة بل قد أصلها وأرسى قواعدها علماء الفقه أولاً، ثم نظمها علماء الأصول في كتبهم، وقعدوا لها القواعد التي من خلالها يمكن التعامل مع التأويل والتفسير المرتبط بالواقع، وهذا يعلمه كبار قادة التشدد أصحاب الفقه الجمودي، إلا أن هناك لمحات دقيقة قد خفيت على الكثير ممن قاد علم التشدد، ومسارات الانزياح عن روح التسامح. وتلك اللمحات تتمحور حول أن أولئك الفقهاء الأقدمين، كان مترسخاً لديهم أنهم يتعاملون مع عالم ملىء بالمتناقضات، وأن الأصل في هذه الدنيا هو وجود التناقض والاختلافات، وأن الوجود الكوني للبشرية قائم على الشيء وضده، وأن خالق هذا الكون قد أسس هذا العالم على وجود الشيء وضده، بل إنه تبارك وتعالى، تعبدنا بحفظ كلام من يخالفنا، ويتناقض معنا في اعتقاداتنا، كقوله تبارك «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بذلك مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ». فقد أسس مبدع هذا الكون الحياة العقلية في ذواتنا الإنسانية، على أنها تقبل التناقض الشديد والصارخ، ويتعايش فيها الضد مع الضد، الكفر مع الإيمان، الحق مع الباطل، يتعايش فيها الشيء مع ضده، وأنه لا تقوم حياة المجتمعات إلا بهذا، فحياة الناس لا بد أن تتسع للأضداد أن تتعارض، وأن القرآن أعطى نموذجاً للأضداد أن تتعايش في مجتمع واحد، وهذا نسمعه ونشاهد تصوير واقع الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة في عدة آيات. وكذلك الواقع المدني كان هناك وجود للمتناقضات، وجود الشيء وضده، مثل وجود اليهود في المدينة بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم. وهذه اللمحات هي التي كانت مختفية من عالم فقه الجمود، والتشدد وأصحاب القول بوجود رجعة، سوف تعيد إلى الأذهان ما كان مندثراً من أصول الديانة، وإحياء رسوم وقواعد الشريعة فيما يظنون في مخيلاتهم وتصوراتهم الذهنية. وهذه هي الإشكالية الحقيقية التي لا تزال تتوهج في نفوس كثيرين بوقتنا الحاضر، بل وإننا نلمسها في حواراتنا ونقاشاتنا البسيطة العادية مع المتعلمين والمثقفين، ذوي التدين البسيط، فضلاً عمن كان ولا يزال متخصصاً بعلوم الشريعة، فهو لا يزال باقياً على التأصيل الذي ينحو إلى عدم الاعتراف بوجود التناقضات في الحياة، وعدم قبول فكرة وجود الشيء وضده، بل إن عدم قبول فكرة أن الأصل عدم وجود المتناقضات وعدم قبول فكرة وجود الشيء وضده، هي من المسلمات الواضحات لدى التيارات ذات التشدد فيما تزعم وتظن، والمصطبغة بفكرة إحياء ما اندثر من الدين، وإعادة حياة الصحابة إلى المجتمعات المعاصرة. وفي مثال واحد معاصر وآني، يتضح أن فكر التشدد والجمود غير العلمي وغير المعرفي، لا يزال مترسخاً في الأعماق، وهو مثال يوضح بجلاء أن لدينا إشكاليةً في تقبل أن التضاد والتناقض حقيقة راسخة في هذا الكون، وينعكس هذا على كل الاختلافات العلمية. وهذا المثال يتعلق بمسألة فقهية بسيطة ضخمها فكر التشدد، حتى كادت تكون موازيةً للأحكام الكبرى في الشريعة، وهذه المسألة تتعلق بأثر «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية»، وهذا الأثر روي مرفوعاً وموقوفاً، والصحيح أنه موقوف على أبي موسى الأشعري، وفي سنده رجل متكلم فيه، أي أن هذا الأثر مختلف في صحته، فلا يجوز بناء حكم شرعي يُفرق المجتمع، ويرمي النساء اللاتي يتعطرن، ويحببن الرائحة الطيبة بجريمة الزنا، ولو كانت على سبيل تقبيح تلك الأفعال، فمن يتمسك بهذا الأثر ويميل إليه ويُحارب دونه، فهو لم يع حقيقة مقاصد هذا الدين، ولم يفطن إلى حقيقة إيجاد التناقضات في هذا الكون. وجود مثل هذا الفكر تحتاج إزالته إلى وقفة مع الذات، وصدق وشفافية في الطرح والتعامل، و ألَّا تأخذ مؤتمرات ودراسات ومراكز تفكيك الفكر المتشدد منحى الشللية، والتنفيع الذاتي الضيق للعاملين فيها، لأن المخرجات لا تزال ضعيفة، ولم تتواز مع ما يُصرف عليها من ميزانيات ضخمة.