نستطيع إجمال أسباب محنة الأدب على النحو التالي، مع ملاحظة انصرافها إلى مصر وحدها في ذلك الوقت، وإن كان من الممكن وجود أصداء لها في البلاد العربية الأخرى:

1 - ظروف السياسة: منذ قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 حتى تاريخ كتابة المقال لم ترفع الأحكام العرفية إلا لفترات قصيرة. فقد دامت منذ 1939 إلى 1945، ثم رفعت بعد انتهاء الحرب، ولكنها أعيدت مع حرب فلسطين عام 1948، ثم رفعت مرة أخرى عام 1951 لمدة عام واحد. أي أنها دامت نحو تسع سنوات خلال 12 سنة. ومعنى ذلك أنها قيدت الأفواه والأقلام، وأحيت قول نابليون بونابرت لوزير داخليته: «ليس لنا أدب جيد وتبعة ذلك على وزير الداخلية». ولا يمكن أن ينشأ أدب جيد في بيئة غير حرة.

2 - ظروف النشر: كثير من الشباب يكتبون، ثم لا يعرفون كيف يظهرون على الناس ما يكتبون.

ولا يجدون من شيوخ الأدب تشجيعًا ولا تأييدًا، ولا من الناشرين إقبالًا. وإذا طبعوا كتبهم على نفقتهم لا يجدون نقادًا يهتمون بها. ويجب على الشيوخ إذن أن يفكروا، وأن يشجعوا، لأن هؤلاء الشباب خلفاؤهم.

3 - ظروف التعليم: من الملاحظ أن التعليم الأدبي ضعيف. فالأدب يدرس بطريقة محزنة تكون نتيجتها أن الطالب لا يعرف التراث ولا اللغة، ولا يفهم كيف يبحث أو يقرأ في تراث أمته ولغته.

ومن هذه الظروف مجتمعة تنشأ محنة الأدب في رأي طه حسين. ولكن من الملاحظ أنها ظروف خارجية، أي ليست داخلة في صلب بنية الأدب من حيث هو تعبير خاص عن تجربة إنسانية خاصة. فهي ظروف أو عوامل غير مباشرة، تتفاوت في الدرجة والأثر. وهي أيضا ظروف عامة غير حاسمة في التعبير الأدبي، ولها جانباها النظري والعملي.

من الناحية النظرية - مثلا - نجد أن الظروف السياسية التي تتيح الحرية أمام التعبير الأدبي أفضل من الظروف التي لا تتيح مثل هذه الحرية. ومع ذلك نجد من الناحية العملية أن الظروف غير المواتية ليست - بالضرورة والحتم - مضادة للأدب أو قاتلة للتعبير الأدبي. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. فعهد لويس الرابع عشر في فرنسا كان عهد ازدهار أدبي بكل المقاييس، بالرغم من الظروف المعادية للحرية، وشعار «أنا الدولة» الذي رفعه لويس المذكور. وكذلك الحال في مصر في سنوات الحرب العالمية الثانية. فقد حرمت الأحكام العرفية والرقابة على الأدباء أن يخوضوا في السياسة بالصورة التي تهدد أمن الحلفاء وسلامة الجبهة الداخلية. ومع ذلك استطاع الأدباء في تلك السنوات الست، وبقليل من الجهد، أن يبدعوا أعمالًا جيدة وبارزة في تاريخ الأدب الحديث. وأقرب مثال يرد على الخاطر هو ما فعله العقاد حين اتجه إلى تأليف سلسلة العبقريات التي اشتهر بها. ونشر خلال السنوات الست العجاف- من الناحية السياسية- 17 كتابا، منها ديوانه «أعاصير مغرب» (1942)، وكتاب «رجعة أبي العلاء» (1939)، وكتابان عن النازية وهتلر. وكان الباقي في العبقريات والسير والتراجم. وكذلك نشر طه حسين تسعة من أهم كتبه، وهي على التوالي: مع أبي العلاء في سجنه (1939) دعاء الكروان (1941) لحظات (1942) أحلام شهرزاد وصوت باريس (1943) شجرة البؤس: صوت أبي العلاء (1944) جنة الشوك، فصول في الأدب والنقد (1945). بل لم يتوقف جيل الشباب وقتها عن الكتابة والإبداع. فقد نشر نجيب محفوظ- على سبيل المثال- رواياته التاريخية الثلاث (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة)، كما نشر أولى رواياته الاجتماعية (خان الخليلي) في آخر سنوات الحرب.

وكذلك كانت الحال في الفترة التالية التي شهدت عاصفة الثورة وتغييراتها المتلاحقة، مما لم يتح لطه حسين نفسه أن يعقب عليه. فلم تختف الأحكام العرفية، ولا الرقابة، بل تفاقم ظرف سياسي كان محدودا في الماضي، وهو الاعتقال بالجملة دون تحقيق قضائي أو محاكمة. وقد شمل ذلك الظرف أدباء كثيرين من مختلف المذاهب والاتجاهات السياسية. ومع ذلك شهد عهد عبد الناصر ازدهارًا أدبيًا ملحوظًا. وفيه ظهرت نهضة القصة القصيرة والمسرح والترجمة بصفة خاصة. ووجد كثيرون من شباب الأدباء مختلف ألوان التشجيع من الدولة، بالمسابقات والجوائز، والوظائف أحيانًا، والنشر أحيانا أخرى. ومع ذلك أيضا لم يكن التعليم الأدبي - الذي أشار إليه طه حسين - أحسن حالا مما كان عليه في الماضي، بالرغم من ازدياد عدد الجامعات والمعاهد العليا في ذلك العهد.

يعني هذا كله في النهاية أن الظروف المشجعة للأدب في السياسة والنشر والتعليم لا يمكن الاستغناء عنها، أو الدعوة إلى ضدها، ولكن هذه الظروف ذاتها نسبية ومتغيرة بطبيعتها، ولا سيما الظروف السياسية التي قد تفوقها في الأهمية والفائدة - أحيانًا - ظروف النشر والتعليم الأدبي، كما حدث - ولا يزال يحدث - في مصر وغيرها من أقطار العالم العربي.

كيف الشفاء؟

وإذا كنا أشرنا إلى استمرار كثير من أعراض محنة الأدب التي أوردها طه حسين، وإذا كنا أضفنا إليها طائفة أخرى من الأعراض المستجدة، فلا بد أن نشير إلى استمرار الظروف العامة الثلاثة التي فصل طه حسين القول فيها. وربما كان استمرارها المزمن هذا معيبًا، ودليلا على بطء إيقاع التغيير عندنا، ولكنه - في الحقيقة - دليل آخر على صحة ما قلناه من أن الظروف غير المواتية نظريًّا ليست بالضرورة قاتلة للأدب عمليًّا. ومع ذلك فلا خلاف على أن هذه الظروف أمر غير مستحب ولا مطلوب من ناحية المبدأ، لأن آثارها سلبية على المدى الطويل. وما الغموض في التعبير الأدبي، والرمز المغلق، وتجاوز الزمان والمكان، والجري وراء تقليد حركات الحداثة الغربية، إلا بعض هذه الآثار السلبية، ولا سيما عند الأجيال الطالعة. وهي - في النهاية - تشكل محنة لا شك فيها.

كيف الخروج من هذه المحنة إذن؟

هذا هو السؤال كما قال هاملت. وإذا كان طرحه سهلا فجوابه، وتحقيق هذا الجواب، من أصعب الأمور. وليس على الأدباء في تحقيق علاج محنة الأدب إلا الإبداع وتجويده. أما العبء كله فيقع على أولي الأمر، أو الدول بمعنى أدق. وقد أصبح للدولة في حياتنا المعاصرة كل شيء. فهي التي تملك المال والنفوذ والمنح والمنع. ولا أحد يحقد عليها في هذا السلطان، ولكننا نريدها أن تيسر سبل التعبير الأدبي ووصوله إلى مستحقيه وجمهوره، ما دام بيدها الإعلام والثقافة. ومن الملاحظ أن الإعلام والثقافة عندنا مختلطان مشتبكان، واقعان في قبضة السياسة. ومهما كان تقديرنا للمصلحة العليا التي تدور حولها أي سياسة، فلا بد أن نطالب للأدباء بفض الاشتباك بين الإعلام والثقافة، بحيث يؤدي كل منهما رسالته في تحقيق المصلحة العليا، دون أن يعني ذلك تهميش الأدب، ودفع الأدباء إلى الصمت أو الهجرة. ومن الملاحظ أن الدول العربية المعاصرة تقف من الأدب أحد موقفين غير صحيين. فهي إما تقتر بسبب ضيق ذات اليد، وإما تغدق بسبب سعة ذات اليد. وكلا الموقفين غير مطلوب، فلا التقتير يصنع أدبًا، ولا الإغداق ينشئ إبداعًا، ولكن الأدب والإبداع تصنعهما التجربة الإنسانية. ولا ينضج التجربة الإنسانية سوى الحرية في تلقيها، والحرية في التعبير عنها.

ويوم يتحقق هذا سيتمنى المرء لو زيد في ساعات الليل والنهار نصفها أو مثلها كما قال طه حسين، حتى يقرأ ويدرس ويبدع. فالمحنة الحالية في الأدب حقيقة لا خيال. والحقيقة لا بد من مواجهتها.

1992*

* كاتب وناقد ومترجم مصري «1935 - 1993».