تناولت في مقال سابق دور وأثر البنوك الرقمية في القطاع المالي والمصرفي بصورة عامة، والواقع الجديد لها، خصوصا في ظل ظروف جائحة كورونا وما فرضته من الحاجة إلى التحول الرقمي لدى جميع القطاعات، وذكرت أن لهذه البنوك من المزايا ما يمكنها من منافسة البنوك التقليدية في شريحة من العملاء وكذلك في الخدمات، بخاصة مع الابتكارات التي تعززها تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ مما قد يجعلها (البنوك الرقمية) أكثر مرونة ومواكبة لعجلة التطور التقني المتسارع.

وفي هذا السياق، من الطبيعي أن يتبادر إلى الذهن سؤال منطقي، وهو: هل سوف تحل البنوك الرقمية محل البنوك التقليدية؟ وقبل الإجابة على السؤال، من المعلوم أن المستقبل بيد الله، سبحانه وتعالى، وهو الذي جعل التغيير سنة كونية، والتغيير فيما هو قادم سنة كونية، ومن الناحية التاريخية لم تكن البنوك موجودة ولكن تطورت الأعمال ودعت الحاجة إلى أن تعتني الدول وجهات أخرى بالتعاملات المالية مع الأفراد والمنشآت، حتى يمكن مقايضة البضائع وتبادل المنتجات وفقاً لحاجة الأعمال والأسواق. ومع استمرار التطور ونمو حجم الأعمال وتعقيدها وزيادة المخاطر المرتبطة بالتعاملات المالية. تطورت البنوك إلى أن أصبحت على ما نراه عليها اليوم، فهي تمثل عصب الاقتصاد العالمي وحلقة الوصل في التعاملات المالية بشكل عام. ونظراً لتسارع وأهمية التغييرات التي تحصل في قطاع البنوك والمال، فمن المحتمل أن أصغر تغيير قد يؤدي إلى ثورة جديدة تؤثر على القطاع البنكي التقليدي، ولذلك يجب أن ننظر متأملين في حجم التغيير اليسير الذي قد تصنعه البنوك الرقمية وحتى العملات الرقمية أيضاً في عالمنا اليوم، وما هو حجم التغييرات الهائلة المتوقعة في المستقبل، بأمر الله. فمن الواضح أن هناك ثورة رقمية قائمة منذ مدة زمنية، وقد أسهمت جائحة كورونا في زيادة تسارعها، وأتوقع أن ما حدث خلال الجائحة سوف يؤثر على ما سيحدث في القطاع البنكي. فالدروس المستفادة التي أخذت خلال العامين الأخيرين أحدثت تغييراً كبيراً في فكر من يدير قطاعات الأعمال بصفة عامة والبنوك بشكل خاص. ولا أعتقد أن البنوك الرقمية سوف تحل مباشرة مكان البنوك التقليدية ولكنها سوف تكون مكملة لها في مرحلة أولى ومن ثم سوف تكون هناك دوافع وأسباب لتغيير ذلك. ومن وجهة نظري أرى أن هناك ثلاثة أمور أساسية جميعها ترتبط بالتقنية، سوف تسرع في عملية التغيير، وتتمثل هذه الأمور في: جانب تخفيض التكاليف والمحافظة على كفاءة الإنفاق، والتقدم التقني والتنافسية فيه، وآخر أمر هو الجانب الاجتماعي والتغيرات في سلوك الأفراد والمجتمعات.

فعلى صعيد التكاليف تسعى البنوك إلى تخفيض تكاليفها لتعظيم أرباحها وزيادة حصتها السوقية، وكانت إحدى الطرق التقليدية لتحقيق ذلك هي من خلال زيادة الإنفاق والتوسع في زيادة عدد الفروع، وكذلك تعيين موظفين لخدمة العملاء على مختلف مستوياتهم. وفي ظل شدة التنافس بين البنوك وتقديم الخدمات بشكل أفضل وأسعار أقل مما يعني هوامش ربحية أقل لها، فإن جميع هذه الأمور تعطي ميزة تنافسية للبنوك الرقمية، وتضع البنوك التقليدية أمام تحد حقيقي خصوصاً على المدى الطويل، إذا لم تقم بعملية التحول إلى الخدمات الرقمية وتخفيض تكاليفها بشكل دوري وجوهري بما يحقق كفاءة الإنفاق ورفع مستوى الخدمات.

والأمر الآخر هو أن التطور والتقدم التقني أصبح أداة لكل من يحسن التعامل معها، والواضح اليوم أن أهم عمليات التحول للتطوير والبقاء داخل إطار ريادة الأعمال والمحافظة عليها هو حسن إدارة عملية التحول الرقمي والتقني، ومن دون ذلك لن تستطيع البنوك التقليدية المحافظة على تطوير مزاياها التنافسية وخصوصاً في مواجهة البنوك الرقمية. بحيث تسهم التقنية في توسيع قاعدة العملاء وجذب المزيد منهم، ويجب أن يتم الاستثمار في التقنية بشكل ذكي ونوعي ودوري، لأنها تفتح مجالاً واسعاً للبنوك للتوسع في معاملاتها وخدماتها، إقليمياً ودولياً، وهذا التغيير يحتاج إلى مرونة كبيرة، وهذه المرونة هي من أهم عوامل البقاء وعدم الخروج من دائرة المنافسة، بمشيئة الله تعالى. ولأن الفرد هو قوام المجتمع، ونمو الأعمال يقوم على تطور ونمو المجتمعات، تؤثر سلوكيات المجتمعات على قطاعات الأعمال فإذا كانت الظروف العادية تؤثر في بعض القطاعات والصناعات بتغير سلوكيات المجتمعات، كالإقبال على مشاهدة الأفلام في دور السينما على سبيل المثال والذي قل بشكل ملحوظ عما كان الوضع عليه في سنوات سابقة، وإذا كان هذا الأثر في الظروف العادية فكيف يكون الوضع في الظروف الاستثنائية، إذ تزيد وتيرة التغيير، كالحال عند حدوث جائحة بحجم جائحة كورونا والتي حدت من حركة الجميع وكان لازماً أن تستمر الحياة والأعمال خلال فترة الإغلاق بشكل أو بآخر. وأصبح القطاع البنكي أمام أمر لا مفر منه وهو زيادة تفعيل التعاملات الرقمية لإنجاز المعاملات المالية. وأدى ذلك إلى تحول كثير من الناس إلى الاعتماد بشكل كامل على إنجاز معاملاتهم المالية من خلال تطبيقات البنوك دون الحاجة لزيارة فروع البنوك. وحتى بعد عودة الحياة إلى طبيعتها، فمن المتوقع أن يقل الإقبال على زيارة الفروع وتفضيل إنجاز التعاملات المالية من خلال التطبيقات المتاحة.

وأعتقد أن الوضع الحالي يضع البنوك التقليدية أمام مجموعة من التحديات، ومن دون شك فإن أي بنك قد لا تكون لديه المرونة الكافية لسرعة إدارة عملية التحول الرقمي بشكل استراتيجي باعتباره الاستثمار الأهم، قد لا يضمن تعزيز البقاء ضمن دائرة المنافسة وقيادة التغيير في القطاع البنكي، بما يحسن العمليات ويقلل النفقات العامة ويعظم الأرباح ويحسن بيئة العمل ويلائم العملاء. ومن الأهمية بمكان أن يتم تفعيل التعاون بين البنوك وشركات التقنيات المالية، حيث يتطلب الأمر من مزودي خدمات التقنيات المالية دعم أنشطة التحول الرقمي في البنوك التقليدية لتسريع عملية التحول. وتوجد في المملكة العربية السعودية بيئة مناسبة للنمو والازدهار، ويوجد اليوم زيادة ملحوظة في حجم المدفوعات الرقمية في المملكة بنسبة %74 مقارنة بالعام الماضي. كما نلاحظ أيضاً قيام عدد من البنوك التقليدية بالاستثمار في القنوات الرقمية. ولعلنا إذاً، سنشهد نضج قطاع البنوك الرقمية وشركات التقنيات المالية في المملكة في وقت أقرب مما نتوقع، والله تعالى أعلى وأعلم.