زارنا شيخنا صالح الفوزان حفظه الله، في جامعة حائل وألقى محاضرة قيِّمة بعنوان «واجبنا تجاه الدين والوطن» حثَّ فيها الطلاب والأساتذة على الحفاظ على نعمة الأمن والاستقرار، وطالب برد شبهات أهل الضلال بالحجة والبرهان، وذكَّر بالوصية النبوية «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، وفي كل محاضرته يستدل بالأدلة من الكتاب والسنة، وفي نهاية المحاضرة وردت أسئلة كثيرة تَشَرَّفتُ بعرضها على سماحته، وكان منها سؤال عن الطريقة الشرعية في الإنكار على الحاكم ؟

فأجاب شيخنا بجواب شرعي محكم، ملخصه: أن الخطأ وارد من كل أحد، والمنكر يُنكَر ولكن بالطريقة الشرعية، وليس بطريقة الخوارج، وذكر أنه لا يجوز الإثارة والتشهير والتهييج على الحاكم في المجالس والمنابر، لأن هذا من فعل المنافقين، ويَنْشأ عن هذا المسلك فتن وغايات سيئة، وإنما الطريقة الشرعية وفق ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِه علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه وإلا كان قد أدى ما عليه»، فإن لم يستطع أن يأتيه فليكتب إليه.

وقد انتشر مقطع هذا السؤال والجواب والذي مدته «دقيقتان» انتشارا كبيراً، فقبله أهل الحق الذين يُعَظِّمون النصوص الشرعية، ورفضه أهلُ الأهواء الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن ذلك أن أحدهم كتب اعتراضاً على جواب الشيخ، وملخص ما احتجَّ به في اعتراضه: «أن هذا - أي: جواب الشيخ - فيه تكميم لأفواه الشعب، وأن منع الإنكار العلني على الحاكم فيه تشويه للإسلام، وأن من يقول بقول الشيخ الفوزان: يريد أن يجعل الأمة كالبهائم يقودها صاحبها بعصاه الغليظة، وأنه لو قيل لأي حاكم: أنت تكمم أفواه الشعب، ولا تسمح لهم بأن ينقدوك لَغَضِبَ وعَدَّ هذه إهانة وشتيمة وانتقاصا لنظام حكمه».


هذا هو ملخص شبهته - وكما ترى - لم يذكر المعترض دليلا يؤيد اعتراضه، وغاية ما ذكره تلبيسٌ وتشغيبات لا قيمة لها أمام النص الشرعي.

ورغبة في إزالة هذه الشبهة، التي لولا تداولها لما التَفَتُّ إليها، رأيت أن أكتب هذا الجواب، لدحْض هذه الشبهة، ولينفع الله به من شاء من عباده، فأقول وبالله التوفيق:

1. ما قاله شيخنا صالح الفوزان حفظه الله، هو مقتضى الأدلة الشرعية، فهو لم يأت بشيء من عنده، وإنما استدل بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِه علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه وإلا كان قد أدى ما عليه» رواه الإمام أحمد.

وعليه: فإن الواجب على كل مسلم أن يتلقى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، لأن هذا من مقتضيات شهادة أن محمداً رسولُ الله، وقد قال الله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُوله» قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة».

2- ما قاله شيخنا في جوابه هو أيضاً ما سار عليه الصحابة رضي الله عنهم، ففي صحيح البخاري قيل لأسامة بن زيد رضي الله عنه «ألا تدخل على عثمان فتُكَلِّمه؟! فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أُسْمِعكم!! والله لقد كلمتُه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه». وفي لفظ للبخاري: «إنكم لترون أني لا أُكَلِّمه إلا أُسْمِعكم؟! إني أكلمه في السر».

فهل يقول هذا المعترض إن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بقولهم هذا «أي: عدم الإنكار العلني» أرادوا أن تكون الأمة كالبهائم ؟!! وهل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته أرادوا بقولهم هذا «أي: عدم النقد العلني للحاكم» تشويه الإسلام؟!!

ألا يعلم المعترض: أن الذي يجعل الناس كالبهائم، بل أضل سبيلا هو من يدعوهم إلى منازعة الحكام، والتهييج عليهم، والقدح فيهم، لأنه مخالف لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويفتح باب الفتن والشر.

3. إن المسلك الذي دعا إليه المعترض -أي: الدعوة إلى الإنكار العلني على الحكام في المجالس والمنابر - هو مسلك المنافقين والخوارج ودعاة الضلال، والدليل على ذلك أن المنافق عبدالله بن سبأ، الذي أظهر الإسلام وهو بضده، هو الذي أمر الناس بالإنكار العلني على الحكام في مجالسهم ومنابرهم، حتى مُلئت القلوب حقدا على ولي الأمر عثمان رضي الله عنه، وكان من نتيجة ذلك أن قتلوه، فمات شهيدا رضي الله عنه.

فيا عجبا: كيف يترك قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبع قول المنافق ابن سبأ ؟ ثم كيف يزعم أن اقتفاء الهدْي النبوي تشويه للإسلام ؟!!

4. كل ما ينقل عن بعض علماء السلف من نصح الحكام، أو الإنكار عليهم إنما هو عند الحكام وبحضرتهم، وليس من خلفهم بالمجالس والمنابر والأودية والشعاب ونحوها، مع أن الحجة إنما هي بالدليل الشرعي، والعلماء يُحتج لهم، ولا يُحتَج بهم، فمن وافق قوله الدليل قُبِل وإلا فلا.

5. النقل الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع العقل الصريح، ولذلك فإن العقول السليمة، تعلم أن الإنكار العلني على الحكام في المجالس والمنابر، سبب للشر والفتن، وأن ما جاء به النص الشرعي فيه مصلحة البلاد والعباد.

6. ما أشار إليه المعترض من قوله «تكميم الأفواه» وهي عبارة مستحدثة يراد منها التهويل والمبالغة، نقول: ليس هناك تكميم أفواه أحد عن الخير، وأما الكلام المُحَرَّم الذي يخالف ما جاءت به الشريعة، ويسبب التهييج والإثارة والفتن، فنعم يجب الصمت عنه، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصْمت» فالصمت أحيانا مطلوب.

ثم إن النقد البنَّاء لكثير من الأجهزة الخدمية في بلادنا متاح، في الصحف والإعلام وفي مجالس الشورى ومجالس الجامعات والحوارات وغيرها، وولاة الأمر يقولون: بيوتنا مفتوحة، ومجالسنا مفتوحة، وهواتفنا مفتوحة، فليس هناك ما يصفه المعترض بتكميم الأفواه، ولكن هذه الآراء والاقتراحات والملحوظات التي تُعرَض، لاعلاقة لها بما يدعو إليه المعترض من الإنكار على الحكام، في المجالس والمنابر ونحوهما، كما لا علاقة لها بالتهييج والإثارة، والمعترض يريد التلبيس والخَلْط بين ما يجوز وما لا يجوز.

7- يقول المعترض: لو قيل لأي حاكم كان: أنت تكمم أفواه شعبك، ولا تسمح لهم بأن ينقدوك لغَضِب وعدّ هذه إهانة وشتيمة وانتقاصا لنظام حكمه.

نقول لهذا المعترض: حكامنا لم يمنعوا أحدا من قول الخير، وأما ما يثير الفتنة من حصائد الألسنة فالشرع هو الذي يمنع منه، وفي الحديث «وهل يكب الناس في النار على وجوههم، إلا حصائد ألسنتهم؟».

ونقول أيضا: أنت أيها المعترض لستَ حاكماً، ومع هذا لو انتقدك الناس على منابر المساجد ونحوها، وتم نشر ذلك في مواقع التواصل، لغضبتَ وقلتَ هذا من التشهير والجرائم الإلكترونية، فكيف تمنع ذلك في حقك، وتجيزه في حق ولي الأمر، الذي وردت النصوص الشرعية بتوقيره، وعدم التهييج عليه، ثم إنك لا تفرق بين من ينتقد الحاكم أمامه مباشرة، وبين من يفعل ذلك خلفه في مجامع الناس، وتريد التلبيس وسلوك مسلك الخوارج في الإنكار العلني.

قال ابن باز رحمه الله: «لما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه، وأنكروا على عثمان علناً عَظُمَتْ الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقُتِلَ عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذِكْر العيوب علناً، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه».