من المؤثرات والعوامل التي رأى فيها مارتن لنكس الأخصائي في المخطوطات العربية، سببًا مهمًا في ثراء الخط العربي، الإحساس بضرورة التماثل والمواءمة ما بين الكلمة المسموعة والكلمة المكتوبة، فإذا كانت الأولى روحًا فلتكن الثانية الجسم المجسد لجمال الروح، وهو ما نبه إليه ياقوت المستعصمي بقوله: «إن الخط هندسة روحانية بآلة جسمانية»، ويكون للعين ما للأذن من وله بها، وتماثل في الإبداع المتبادل بينهما، حتى صار المتعلمون من المسلمين يتفاضلون بجمال خطوطهم وحسن كتابتهم، كما يتفاضلون بعلو مراتبهم في العلوم والفنون والآداب، وكان لمدارس الخط من العناية ما يوشك أن يكون لمثيلها في الأدب واللغة، وكان على الخطاط أن يوسع من قراءته في الدين والحكمة والأدب والشعر ليختار من الكلام ما هو حقيق للإبداع في خطه.

وإن هذه المواءمة ما بين الكلمة المسموعة والكلمة المكتوبة اللتين تقدستا بكونهما حملتا القرآن الكريم هدى للناس أفردت كل نوع من أنواع الخطوط للإيفاء بغرض من الأغراض وخصته باستعمالات معينة راح يتطور من خلالها، ويسعى لإبراز محتواها ودلالتها المعنوية، فلكتابة المصاحف والشعر والحكم خطوطها، وللدواوين والمراسلات خطوطها أيضًا، وحسب الخط الكوفي دوره في إيضاح ذلك بما كان لكل نوع من أنواعه ما يخصه بتوجه معين «فالكوفي التذكاري» استخدم في الغالب لكتابة الآيات القرآنية الكريمة والحكم وتثبيت تواريخ الوفيات والولادات وما شابه ذلك «والكوفي المصحفي» انتسب بصفته هذه إلى شيوع نسخ المصاحف الكبيرة به وعلى الأخص في القرون الثلاثة الأولى التي أعقبت الهجرة النبوية، والكوفي البسيط خص بالمادة التحريرية التي تبرز المعنى بيسر قراءة حروفه، بينما تحول الكوفي المورق الذي شاع على أيام الفاطميين فعرف بالتوريق الفاطمي، و«الكوفي المخمل» و«الكوفي المضفر» المنسوب إلى شكل الضفيرة و«الكوفي الهندسي».. إلخ، إلى التأكيد على النوازع التزينية تبعًا لتطور الواقع الاجتماعي وتعمق الحس الجمالي... وقل مثل ذلك بالنسبة للخط «الديواني» و«الثلث» انطلاقًا من أبسط أشكالهما الانسيبابية، وإلى أعقدها في طغرائية السلاطين العثمانيين وما تفرع عنها من تشكيلات تجريدية على جانب من الغنى الأدائي، انتهاء بالرسم بواسطة الكلمات لتتخذ صورة أسد أو جمل أو إبريق أو طائر، عبر ثلاثة أبعاد ومستويات متداخلة، فظاهرها صورة تشخيصية ومحتواها جملة ومؤداها خطوط، ويوم أن شاع الغموض في بعض كلام الخاصة كالمتصوفة كان الخط رديفًا له في الشكل المنطوي على ذاته والذي لا يهب سره بسهولة إلا من حيث هو شكل ظاهري.. وفي أحيان في حرف أو جزء من حرف اتخذ له شكلًا، حيث يقف الألف كالسيف رهيف القامة وقد اعتلته قبضته، أو حيث تصير نهايات بعض الحروف مناقير معقوفة لصقور، وهكذا يصير للكلمة ما يطرحها بعدًا في الرمز، كمفردة الشاعر حين تمد بنفسها إلى أكثر من غرض في الدلالات الإيحائية أو الإيمائية.

ولا بد من الإشارة عند التعرض في الحديث عن المؤثرات والعوامل في تطور الخط العربي، إلى أثر الحيز أو المجال الذي مورست فيه الكتابة، والمواد التي استخدمت في الكتابة، وإلي ما كان لهما من وقع إيجابي على مسيرة الخط العربي، بعد أن أصبحت الكلمة المدونة من بعض الأسس الرئيسية في تزيين المساجد وقبابها والقصور والأبواب وألبسة وأساور النساء وحتى الخدود والقدود والأيدي والسيوف ودروع وخوذ المحاربين والأواني النحاسية والزجاجية إلخ، وصار للخط أن يتكيف للحيز المفرد له بشكلية مناسبة، وللمادة المعدة له بما يصلح لها من أسلوب في الأداء، فقد يختزل الكلام نفسه ويتكور بعضه على بعض بأثر من ذلك، وقد تقصر أطراف بعض الحروف أو تطول، وقد يندمج حرف بحرف في شكل واحد أو تتوزع النقاط على الفراغات، وقد يتوزع حرف بين كلمتين، أو يختل رسم الحروف ومقاساتها عبر ابتداع شكليات جديدة لها إيقاعها الجمالي الخاص بها ولا يكون لها مثل هذا الإيقاع لو نقلت إلى حيز آخر ولو نقشت على مادة مختلفة، وقد يتوزع العمل بين شخصين أو أكثر ضمن أداء أسلوبي واحد، ورؤية جمالية منسجمة وإدراك متواز في استخدام المساحة المسطحة بما يهب للحرف جماليته المنبثقة من حسن التوافق بين أجزاء العمل كله.

وهكذا وقعنا على نماذج رائعة في الكتابة المعمارية من الخط المزوى أو الخط المنحني ومن خلال أشكال هندسية عديدة يتقاسمها المستطيل والمربع والمثلث والمثمن.. إلخ، ولكل منها كمساحة معينة أن فرضت أحكامها على الخطاط، وفرضت عليه أن يستنبط من أشكال الحروف والخطوط ما يناسبها وهو ما يمكن أن نقول به بالنسبة للكتابة على الأبواب الخشبية والأواني النحاسية والزجاجية وما تبعها من زخارف ورقية هندسية، وابتكار في رسم الحرف، فهناك من استخدم التكرار الإيقاعي عبر قيم ضوئية أو لونية فسيفسائية ليوحي ببعد منظوري يلوح لك وكأنه منعكس على مرآة..

وهناك من كرر الحرف وتدرج في رسم نماذجه وكأن الواحد صدى للآخر في إيقاع ذي مستوى أدنى، وهناك من الخطاطين من شفت حروف كلماته، فبدت كأنها ظلال متلاحقة تناسب القماش الشفاف الذي خطت الجملة عليه.

وقد دفع تعدد مجالات استخدام الخط العربي بالخطاط إلى أن يرهف من حساسيته التشكيلية وقدرته على الابتكار وضبط إيقاعات الحروف وتوازنها الأفقي والعمودي، بحيث يكون لحروفه أن تنعقد في دائرة سقفية أو تستطيل على عمود أو تتخذ لها شكل مخمس أو مثمن تتحدد أطرافهما بمجموعة من حرف الألف أو اللام لتصبح بالتالي ضربًا من الزخرفة الشعاعية القائمة على المزج بين الإشعاعات النابذة والإشعاعات الجاذبة التي تدور حول بؤرة مركزية.

1995*

* شاعر وكاتب عراقي " 1926- 1996"