أعلن الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي أن العالم دخل فعلا مرحلة الخطر، بما ينذر بمواجهة كبرى قد تكون لها آثار مدمرة على السلم العالمي.

ما يعنيه ميلي هو الحرب المحتملة مع الصين التي طورت صواريخ أسرع من الصوت محملة برؤوس نووية، في وقت لا تخفي فيه حكومة بكين عزمها على استعادة تايوان بالقوة بعد القضاء على آخر سمات الاستقلالية في هونغ كونغ.

لم تبدأ هذه النغمة المتوجسة من الصين مع الإدارة الحالية، بل سبقتها في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب الذي اعتبر أن الصراع مع الصين حتمي، وأن منطقة آسيا والمحيط الهادي هي ساحة الحرب الباردة الجديدة.

لقد انقضت الفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة تعتبر الصين شريكا مفيدا وناجعا في الحرب المفتوحة مع الاتحاد السوفياتي كما كان الشأن في أيام الرئيس نيكسون بإيحاء من وزير خارجيته الشهير هنري كيسنجر.

كما انقضت الفترة التي كانت الصين باعتبارها الشريك التجاري والاقتصادي الأول للولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لأمريكا في مسار العولمة الاقتصادية وتحرير التجارة الدولية.

كان الخطر الوحيد الذي يتهدد العالم كما كان يقول الرئيس بوش الابن ومستشاروه من «المحافظين الجدد» هو حركية الإرهاب الجديد الذي ينبع من الشرق الأوسط ويتركز في الإسلام السني الراديكالي. ومن هنا كان موقف إدارة بوش هو هزيمة الإرهاب الشرق أوسطي من خلال تغيير الأنظمة المعادية للولايات المتحدة ونشر «الديمقراطية الأميركية» بالقوة والضغوط المختلفة.

لم تتغير هذه الاستراتيجية مع الرئيس الديمقراطي أوباما الذي شجع ما سمي بالربيع العربي الذي كان وبالا على استقرار المنطقة وأمنها. وظل الرئيس أوباما محافظا على فكرة المجموعة الدولية المتضامنة التي تشمل الصين، ولم يستشعر نذر المواجهة الدولية التي أعلنت من طرف خليفته ترمب والرئيس الحالي بايدن.

لقد اعتبر مؤخرا وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كيسنجر أن أهم تهديد واجهته الولايات المتحدة في تاريخها المعاصر هو التهديد الصيني الحالي الذي هو أخطر نوعيا من التهديد السوفياتي أيام الحرب الباردة.

واعتبر كيسنجر أن التطورات التقنية المزدوجة في المجال النووي والذكاء الاصطناعي قد فاقمت أضعافا من احتمالات الحرب العالمية الماحقة. فالفرق الأساسي بين الصين وروسيا الشيوعية، هو أن الصين قوة اقتصادية وتكنولوجية كبرى بينما كان الاتحاد السوفياتي مجرد قوة عسكرية هشة اقتصاديا. ومن الواضح أن الصين تنافس اليوم أمريكا في أبرز عناصر القوة المستقبلية من تقنيات اتصال وفضاء وطاقة.

لقد استنتج الرئيس السابق ترمب من هذه المعطيات ضرورة التقارب مع روسيا التي لا تشكل تهديدا حقيقيا للمصالح الأميركية، معتبرا أن المنظومة الأطلسية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية لحماية أوروبا الغربية من الخطر السوفياتي لم تعد مبررة، وأن على الولايات المتحدة أن تتجنب جر الأوربيين لها في حرب عقيمة مع روسيا باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

أما بايدن الذي رفع شعار العودة إلى التحالف الليبرالي الغربي، فقد أراد تجديد أطر الشراكة الأطلسية ضد الخطر الجديد الذي هو بالنسبة له الصين في سعيها للهيمنة على محيطها الآسيوي المباشر والتمدد إلى باقي العالم.

ومن الجلي أن أوروبا غير راغبة في خوض حرب باردة جديدة ضد الصين، خصوصا أن الاعتبارات الأيديولوجية غائبة في هذه المواجهة ذات الخلفيات الاقتصادية والاستراتيجية.

لقد اعترف المفكر الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما مؤخرا أن تطور الصين الراهن قد فوض نظريته في نهاية التاريخ والتوسع الحتمي للرأسمالية الليبرالية، مقرا أن الصين نجحت في بناء نموذج مستقر بديل عن النموذج الغربي يقوم على الجمع بين الرأسمالية الاقتصادية النشطة والمركزية السياسية المنظمة، ومن هنا فإن المواجهة بين النموذجين الأمريكي والصيني حتمية لا محيد عنها.