كما هو معروف أن البنيوية مدرسة غربية من مدارس التحليل الأدبي، جاءت بمباحث تهتم بالإشارة أو العلامة (sign) للكشف عن القوانين الداخلية للأدب الإنساني، يتحول فيها النص إلى نوع من الإشارة الحرة التي يفسرها القارئ تبعًا لرؤيته لا تبعًا لرؤية كاتبه، ومن هنا تكمن مشكلتها التي تضمر رؤية معادية للإنسان. هذه الرؤية تلقفها المثقف الشعوبي بكل سلبية وأراد توظيفها لدراسة تراثه العربي والإسلامي قبل أن يقلب ظهر المجن ويستخدمها في معركته الأيديولوجية تجاه تراث الثقافة العربية الإسلامية. يقول المفكر المصري عبدالوهاب المسيري متحدثًا عن هذه الفئة من المثقفين: «كل هؤلاء استوعبوا تمامًا النموذج الحضاري الغربي واستبطنوه من دون أن يدركوا تضميناته المختلفة. فقد استوعبوه في غالب الأمر باعتباره مجموعة من الأفكار الجميلة النبيلة التي لا تترابط داخل منظومة واحدة، وتحولوا إلى أدوات توصيل جيدة له ولقيمه، أحيانا عن وعي، ولكن في معظم الأحيان عن غير وعي ودون فهم عميق».

كيف ساهمت النظرية البنيوية في صياغة شخصية المثقف الشعوبي؟ سؤال مهم للغاية، كونها تختلف جذريًا عن مناهج النقد العربية من حيث المنهج وزاوية النظر تجاه النص، وحتى تكتسب الشرعية بصفتها «نظرية حديثة» في الأوساط الثقافية العربية، فإن البنيوية ستعيش نوعًا من الصراع الفكري مع التراث العربي وأفكاره وحتى مع معتقداته الدينية. ولأن الأفكار والنظريات الغربية تقدم في أقسام العلوم الإنسانية بصفتها «عالمية» و«حديثة» وهذا سبب تحيز المثقفين العرب لها، لأنها تضفي عليهم سمات التقدمية والتحرر ومواكبة العصر الحديث، يقول المسيري: «وأصبحت مهمة الباحث هي تلقي المعلومات التي يقال لها عالمية، والتي في واقع الأمر غربية، ثم إعادة إنتاجها على هيئة دراسات وكتب تظل حبيسة المفاهيم الغربية وتساهم في تطوير المعارف والعلوم الغربية، وفي فصل الباحث عن مجتمعه وعن معجمه الحضاري والإسلامي العربي».

إن معالجة النصوص في الدراسات العربية القديمة أخذت شكلًا معقدًا ومتشابكًا من النظريات والأفكار التي تناولت النص من جميع جوانبه، النحوية والبيانية والبلاغية والمعجمية، لتحليل العلاقة المعقدة بين اللفظ والمعنى، التي ستصبح جدلية مع تطور الألفاظ بفعل التاريخ وتحول المجتمعات، وقد استطاعت الدراسات العربية القديمة إلى حد كبير تحويل الحالة المعلقة والمجردة للنصوص إلى واقع له صفة الحضور والحياة من خلال إعطاء التاريخ ومجتمع السلف أهمية كبيرة في تفسير النصوص، وهذه الأهمية الممنوحة لمجتمع السلف بصفته مجتمع عاش زمان ومكان نزول الوحي الإلهي، تتعارض جملة وتفصيلًا مع أبسط مبادئ النظرية البنيوية التي تنظر للنص بما فيه من شكل ومحتوى، على أنه مجموعة من العلامات اللغوية المنفصلة عن التاريخ والمجتمع. ومن هنا تنشأ النزعة الشعوبية عند المثقف المناصر لها، فهو يعيش حالة صراع داخلي في انتمائه الثقافي، تتولد عنه رغبة عدائية تجاه التراث العربي، يتخفى وراء حجج النقد الثقافي والاجتماعي الذي يصبح عملية متهورة في إطلاق أوصاف المبالغة والتأليب والأحكام العشوائية والقراءة الانتقائية للتراث.


قامت أغلب النظريات اللغوية والنقدية في الحضارة العربية الإسلامية على أساس أن للنصوص شكلًا من الوجود لا ينفصل عن المجتمع والظروف والزمان والمكان والمجتمع، وهذا يتعارض مع مبدأ القراءة الخاصة للنص المتحررة عن فهم السلف. الدراسات اللغوية في التراث العربي تؤكد بشدة أن النص مثقل بالمناسبة التي رافقته وبالوقائع الملموسة التي نشأ منها، لذلك مجتمع السلف يتمتع بأهمية موضوعية في تفسير النصوص، وهذه الفكرة ستصطدم برفض قاطع من المشتغلين بالنظرية البنيوية والمبشرين بها كونهم يحملون شعار (النص المكتفي بذاته). هذا التضارب في الأفكار والرؤى، وأيضًا التضارب في المصالح، تولد عنه إحساس بالرفض والتهميش عند المثقف الشعوبي، لأن نظريته البنيوية التي يبشر بها سوف تفتح الباب على مصراعيه لفوضى التأويلات للنصوص المقدسة، وهذا ما ترفضه تمامًا الدراسات اللغوية التراثية التي تعطي أكبر قدر ممكن من الضوابط على القارئ في محاولة لضبط وتقنين العلاقة الجدلية بين اللفظ والمعنى.

يقول إدوارد سعيد: «فكل قول هو مناسبة نفسه، ولهذا فهو يتصل اتصالًا وثيقًا بسياقه الدنيوي الذي يطبق عليه. وبما أن القرآن، وهو المثال الأعلى للغة الإلهية والبشرية، نص يجمع الكلام والكتابة، والقراءة والإخبار، فإن التفسيرات الظاهرية تقر، لا بانفصال الكلام عن الكتابة، ولا بانفصام النص عن ظروفه المحيطة به، بل بضرورة تفاعل الطرفين لأنه حتمي. وهذا التفاعل الذي يتشكل منه المعنى هو الذي يجعل هذه الفكرة المتشددة الخاصة بالمعنى لدى الظاهريين ممكنة». يوحي لنا حديث سعيد بأهمية المجتمع السلفي والظروف المحيطة به في تراث الحضارة العربية الإسلامية، بمعنى أن أي فكرة توحي بأن النص مكتف بذاته ستأخذ موقفًا ضديًا ومناقضًا، وبالتالي موقفًا نضاليًا وصراعيًا ضد تراث الحضارة العربية الإسلامية، وقد يكون التضارب في الأفكار في هذه الحالة هو أحد الدوافع النفسية للنزعة الشعوبية عند المثقف العربي.

النزعة الشعوبية الحديثة تستحق الدراسة والبحث، فهي ظاهرة مركبة ومعقدة لها عوامل نفسية واجتماعية متعددة، كما أن لها أعراضًا وتجليات، بعضها ملحوظ ومشاهد وبعضها مبطن ومخفي. ولعل العلاقة الإشكالية مع الثقافة الغربية هي المسبب الرئيس لظهور هذه النزعة، فالحضارة الغربية تحولت لنموذج يجب أن يحتذى به عند المثقف الشعوبي، والغرب أصبح بدوره قيمة مطلقة ونهائية يجب تبنيها والاندماج معها إذا أردنا اللحاق به، من وجهة نظر المثقف الشعوبي.