السلام هو اسم من أسماء الله الحسنى، فهو الملك القدوس السلام. وهو يعني السلامة من النقص والعيب والفناء، فهو الباقي الدائم الذي يفني الخلق ولا يفنى.

وهذا السلام لا يعرفه الإنسان ولا تدركه الشعوب والدول، ذلك لأن الإنسان غير معصوم وسلامته ناقصة ومعيبة وفانية.

ومن هنا كان الحديث عن السلام الذي يسعى إليه البشر هو الحديث عن محاولات الخلاص، أو النجاة أو البراءة من الأذى والمكروه.. وهي محاولات لا تنقطع ولا تصل إلى غايتها، لأنه لا خلاص للبشر ومجتمعاتهم من النقص والعيب والفناء. وتقف قدرات البشر على تخفيف الأذى، وتلافي بعض النقص، وعلاج بعض العيوب للحصول على مرحلة أو فترة زمنية من سلام مؤقت. ويقول تعالى: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما» أي طلبوا البراءة والخلاص والنجاة من الجهلاء، فكأن عملية السلام عند البشر هي تلك المحاولة الدءوب لدفع الشرور والآفات.

ويبدو أن هذا المعنى غير واضح في أذهان الكثيرين، الذين يخلطون بين السلام بمعنى النجاة من الأذى وصد الجهلاء، وبين السلام بمعنى التحية والترحيب بالآخرين. وهو معنى حديث، لأن العرب أيام الجاهلية لم يقرنوا بين التحية والسلام.

فكان يقول أحدهم لصاحبه «أنعم صباحا وأبيت الله» كما ورد في لسان العرب لابن منظور. أما إذا قال «سلام عليكم» فهذه علامة مسالمة وأن لا حرب ولا خوف، فالسلام ضد الشرور والأذى، وهو ضد الحرب أو الوجه المقابل لها.. وإذا راجعنا قواميس ودوائر المعارف في لغات أوروبية متعددة، نجدها لا تختلف عن المعاني التي وردت في المعاجم العربية.

فجاء في دائرة المعارف البريطانية على سبيل المثال، إن السلام هو «التحرر» من الحروب والعداوات، وهو حالة من الصداقة أو التعاون أو التحالف «للخلاص من شرور الحرب».

ولذلك لا يكتمل الحديث عن السلام إلا بالحديث عن الحرب، التي هي جماع الشرور والأذى والهلاك.

ويعرف القانون الدولي السلام بأنه حالة الدولة عندما لا تكون في حرب مع دولة أخرى. والسلام الدائم المطلق ليس له وجود، فهو كما رأينا اسم من أسماء الله الحسنى، ويختلف تماما عن سلام البشر، الذين يتحولون في مجتمعاتهم بين حالات السلم أو الحرب، التي حاول القانون الدولي - ومازال - أن يضع لها تقاليد وأعرافا باعتبارها ظاهرة تلازم تاريخ الإنسان منذ بدايته وتتطور معه، برغم أحلام وأمنيات تجول بخاطر الإنسان على مر العصور، أن يتخلص من الحروب وينجو منها.

ولكن الحرب تظل قائمة مهما تقدمت الحضارة أو ارتفع مستوى الثقافة، ويقول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه الأخير نصر بلا حرب إن القرن الحالي وهو ينتهي عام 1999- بعد ثلاث سنوات ! ! - سيقدم للإنسانية كشف حساب مروعا، لأنه أكثر القرون دموية برغم أنه أكثر القرون تقدما في تاريخ الإنسانية.

لقد شهد هذا القرن العشرون مقتل مائة وعشرين مليونا من البشر في مائة وثلاثين حربا، وهو عدد يزيد على عدد جميع من قتلوا في جميع الحروب التي شهدها التاريخ البشري قبل بداية القرن العشرين.

ولا شك أن هذا العدد الضخم من ضحايا الحروب في القرن العشرين، قد زاد منذ صدر كتاب الرئيس نيكسون بقتلى حروب ومذابح الصومال ورواندا في إفريقيا، وقتلى حروب ومذابح المسلمين والكروات والصرب في يوغسلافيا القديمة، ثم حرب الشيشان والحروب الصغيرة في أفغانستان والتاميل في سيريلانكا وغيرها. إن الحديث عن التقدم والرفاهية والسلام، كان له دعاة في القرن العشرين، توقعوا أن يؤدي ما تحقق من اكتشافات علمية وابتكارات واختراعات تكنولوجية إلى نجاة المجتمع البشري من شرور الحروب، ليتمتع الإنسان بالسلام على الأرض، لكن الحروب فرضت نفسها واستفادت من التقدم العلمي والتكنولوجي، كما استفاد السلام سواء بسواء، ومازالت دار السلام الحقيقية هي الجنة و«العالم الآخر» كما جاء في معاجم اللغة العربية.

ويتحدث الأدب السياسي حاليا عن السلام برؤية واقعية لتجارب البشر، عبر حضارات تعاقبت وواجهت صعوبات لا حصر لها في «تعريف» السلام أو «البحث» عن السلام أو «حفظ السلام»، لأن السلام مثل الحرباء كان يتلون بلون البيئة والظروف، التي تحيط بالباحثين عنه.

فالسلام في دولة ديمقراطية غير السلام في دولة نظامها ديكتاتوري. والسلام لا ينفصل عن الحرية في المجتمع الديمقراطي، لأن الحرية تتحول إلى قلاقل واضطرابات وعمليات تعذيب واعتقال في مجتمع ديكتاتوري.

والجنود يحاربون في مجتمع ديمقراطي تحت شعار الحرية. بينما الجنود في مجتمع ديكتاتوري يحاربون تحت شعار القوة والسيادة للأقوى، والسلام الذي يتحقق عن طريق حرب وهزيمة هو استسلام وقهر، وإنه لأمر يدعو إلى السخرية حقا أن نرى الجهود الجبارة التي يبذلها المجتمع البشري، من أجل الوصول إلى السلام وهي تتحول إلى عمليات حربية وعدوان تراق فيه الدماء وتبدد الثروات باسم السلام !.

ولقد تنازلت الرؤية الواقعية للسلام عن اعتباره هدفا في حد ذاته، لأنها ترى أن السلام مثل الحرية، كلاهما يستمد قيمته العليا من المناخ الذي يتوافر للإنسان عندما يتمتع بها، فهو يستطيع - مع السلام والحرية - أن يؤكد ذاته وإرادته،ونحن لا نطلب الحرية لنتمرغ فيها بلا هدف أو عمل، لأن مثل هذه الحرية لا بد أن تنحرف إلى فوضى أو لون من ألوان الشذوذ.

وكذلك نحن لا نطلب السلام لننجو من الخوف والقلق ومصادر الخطر، ثم ننعم براحة البال كالخراف في حقل برسيم - على حد تعبير فيلسوف التاريخ أوزفالد شبنجلر - وهو يتحدث عن فترة السلام التي تمتعت بها أوروبا في الفترة بين1870 عندما سقطت باريس تحت رحمة جيوش بسمارك الألماني، و 1914 عندما نشبت الحرب العالمية الأولى. وخلال هذه الفترة بين الحربين توهمت أوروبا أن الحروب انتهت، وأن السلام مقيم ومستقر، وعاشت ما كان يسمى «بالحقبة الجميلة» حتى فاجأتهم الأزمة تنخر كالسوس فكانت الحرب العالمية.

1996*

* كاتب وروائي مصري " 1924-1999"