شرع شكري عياد، منذ وقت قصير، في إعداد «الإبداع.. مقدمة في أصول النقد» (1987)، و«اللغة والإبداع.. مبادئ في علم الأسلوب العربي» (1988). وهما، كما ترى، كتابان في مناهج البحث، ولكن صاحبهما كان حريصا غاية الحرص على توصيل «الأمانة» إلى ذويها و«الدعم» إلى مستحقيه، فجاء أسلوب التوصيل ومادة الدعم مما لا يقطع الخيط من الجامعة إلى الشارع.
أراد شكري عياد منذ البداية أن يقول إن «مناهج البحث» ليست طلاسم كهنوتية من المحرمات على «القارئ العادي»، وإنما الوقوف عليها ومعرفتها من الضرورات القصوى لقارئ الأدب، حتى لا يخدعه ناقد ناقص الخبرة، وبالتعالي والتعالم والاستخدام الأجوف لمصطلحات غامضة يزدردها دون فهم وإدراك ووعي، مما يخيف القارئ ويرهبه، فيبتعد كليا عن النقد، متهما نفسه بالجهل، أو أنه يفقد الاتصال بالعمل الأدبي موضع النقد، على أقل تقدير، وهكذا يخسر الأدب قارئه.
وإما أن القارئ يطلع على نقد جديد بالفعل، له أدواته المستحدثة التي تستحق الصبر في التعامل معها، والاستنارة بها، فتغتني رؤية القارئ بجوانب ما كان يستطيع الاستمتاع باكتشافها من قبل. وقد تابع شكري عياد المتغيرات اللاهثة في العالم الأدبي المعاصر طيلة العقدين الأخيرين، حيث كانت هناك أولا علامات الضعف والهزال التي اتضحت في أكثر ممارسات النقد العربي، وكانت الجهود النظرية قد اختفت على وجه التقريب، وتحول النقد في مختلف مدارسه إلى انطباعات وتأملات وخواطر أكثر منه تحليلا وتقويما.
وكانت هناك ثانيا الاتجاهات البنيوية والألسنية أشبه ما تكون بالطقوس الوافدة من علوم «مقدسة» كالأنثروبولوجيا والسيميولوجيا.
وقد هب بعضنا ينقل المصطلحات والإحصاءات والقياسات الجديدة، مهملا مقدماتها وسياقها، مشوها ترجمتها في الأغلب، متعسفا في تطبيقها، ولكنها بدت في جميع الأحوال وكأنها المنقذ من الضلال.
وفي الوقت نفسه كان شكري عياد يقرأ الرواية العربية الجديدة والقصة القصيرة الجديدة والقصيدة الجديدة، وينصت إلى احتجاج مكتوم متعدد التنويعات: أين النقد؟.
كان «المناخ الحميم» القديم قد غاب مع الكثير الكثير الذي غاب. كان القمع الانفتاحي قد غيب الثقافة في الشتات.
وكانت هناك هجرتان، إحداهما أقسى من الأخرى: هجرة إلى الداخل، والثانية إلى الخارج. انفرطت العروة الوثقى بين الأدب والنقد، وبين النقد والجمهور.
انكسرت الأقلام والمنابر، وأقيمت الحواجز الصحية بين المواطن والثقافة.
ليست الثقافة جامعة مفتوحة أو كتابا يصدر أو صحيفة تقرأ أو برنامجا يذاع، وإنما الثقافة حركة حية لحوارات بين اتجاهات مختلفة. وفي ظل العهد الموصوف بالانغلاق، شهدنا وسمعنا وشاركنا في معارك الشعر الجديد والواقعية والفن للفن والالتزام.
معارك العقاد وطه حسين ومحمود العالم وعبدالرحمن الشرقاوي وزكي نجيب محمود ولويس عوض وصلاح عبدالصبور ومحمد مندور ورشاد رشدي.
هذه المعارك الصريحة هي التي صاغت التيارات والاتجاهات والمنابر، وهي التي بلورت «الحركة الثقافية»، بما اشتملت عليه من أدب ونقد.
ولكن الانفتاح، الذي هزم أشياء كثيرة، هزم أيضا الحركة الثقافية، لم تعد حركة.
لم يعد ثمة حوار ولا تيارات ولا منابر، لذلك وقعت الهجرة بشقيها إلى الداخل وإلى الخارج.
انتهى «المناخ الحميم»، وبدأ عهد الشتات، لذلك انفصل الأدب عن النقد والنقد عن القارئ، وأفضى هذا الانفصال إلى تراكمات للسلبيات، وإحدى الثغرات بين الإبداع والتذوق، وبينهما وبين ضرورة قيام «حركة ثقافية».
ثلاثية شكري عياد، التي صدر منها جزءان، هي أحد المؤشرات الإيجابية على استئناف الحركة الثقافية مسيرتها المتعثرة.
إنها حوار مباشر مع الاتجاهات المسماة «حديثة» في الغرب، ولكنه حوار «صاحب الشأن»، وليس المتفرج الواقف على الرصيف، حوار المهموم بقضايا الثقافة الوطنية، وفي مقدمتها قضايا النقد، وهو حوار وليس تلقيا سلبيا مستسلما لمواصفات مسبقة.
هذا الحوار ينطلق من داخل الظاهرة الأدبية، ويعيد برفقتنا النظر في كثير من المسلمات، المحلية والأجنبية، ويراجع تراكمات التجربة الأدبية والنقدية العربية المعاصرة.
1991*
* ناقد وأكاديمي مصري «1935 - 1998»