على أن المسألة ليست بحثا عن إجابة في شكل تعريف للفلسفة.. فلو كان الأمر كذلك لوجدنا التعريف جاهزا.. «عفوا» لوجدنا أكثر من تعريف جاهز كذلك عبر التاريخ الطويل للمدارس الفلسفية المختلفة:

فقد تكون الإجابة متعلقة «بالبحث عن الوجود من حيث هو» أي مشاكل الوجود الأولية والأساسية، كما في الفكر اليوناني، وقد تكون متعلقة بالأخلاق العملية كما في العصر الهليني، أو بالعلاقة بين الله والإنسان، أي بالدين كما في الحضارة الإسلامية والعصر الوسيط المسيحي، أو متعلقة بالأنا أفكر، أو بالأنا الموجود، أو بالتجريبية أو النقدية، أو التنويرية أو العقلانية والحدسية، إلى غير ذلك في عصرنا الراهن.

وباختلاف هذه التعاريف تبرز الطبيعة التاريخية للفلسفة.. أي اختلافها باختلاف مراحل التاريخ، واختلاف الأوضاع الذاتية والموضوعية.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن سؤال الفلسفة عن نفسها اليوم، أو سؤالنا نحن عن الفلسفة اليوم، هو سؤال عن راهنية الفلسفة، أي عن علاقة الفلسفة بعصرنا الراهن، وأتساءل قبل السؤال: هل هو سؤال معرفة؟ أم سؤال أزمة؟.

وأقول منذ البداية: إنه سؤال أزمة، وهذه هي القضية التي نعرض لها في مقالنا هذا، دعوة للحوار أكثر منها محاولة للإجابة عن سؤال. ما هي الفلسفة؟.. هذا السؤال ليس سؤالا شخصيا.. بل يكاد يكون سؤال عصرنا الراهن، ولعل أبرز من عبر عنه في السنوات الأخيرة هو فيلسوف فرنسي، يعد واحدا من أبرز فلاسفة فرنسا المعاصرين، هو جيل دولوز في كتابه: «ما هي الفلسفة؟» الذي صدر عام 1991 بالمشاركة مع فيلسوف فرنسي آخر، هو فيلكس جتاري.

وكتاب دولوز هو آخر كتبه فيما أعتقد قبل انتحاره، كتبه في أواخر عمره بعد عمر طويل من البحث والإبداع الفلسفي، لماذا السؤال بعد كل هذا العمر من الممارسة الفلسفية الطويلة، ولماذا السؤال اليوم؟ لنفس السبب الذي دفعني إلى السؤال منذ ثلاثين عاما، إنه سؤال أزمة لا سؤال معرفة.

وعندما نتحدث عن أزمة الفلسفة، فنحن نتحدث عن الفلسفة في عموميتها، نتحدث عن موقفها وإجاباتها إزاء الأوضاع الإنسانية السائدة، لا نتحدث عن مستوى الدراسات الفلسفية في بلادنا أو أي بلد آخر، فهذا أمر آخر وحديث آخر.

هناك أزمة في الفلسفة على المستوى الفكري الإنساني العام، أزعم أنها جزء من الأزمة العامة التي يعانيها العالم كله، في مختلف أقطاره وفي مختلف جوانب حياته السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والفكرية والقيمية بوجه خاص.

أقول هذا، دون أن أنفي أو أتعالى عن ذكر أزمتي الفكرية الخاصة، المتمثلة في انهيار تجربة الحلم الذي كان واعدا في المنظومة الاشتراكية عامة، والاتحاد السوفييتي خاصة، وفي المشروع القومي المصري العربي، وفي تفاقم هيمنة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، هذه الهيمنة التي تتمثل بوجه خاص في وجهيها الصهيوني والأمريكي.

على أن الاعتراف بأزمة، لا يعني النكوص عن طريق الحلم أو التسليم لأعدائه، وإنما هو مراجعة نقدية واعية للفكر والنفس والواقع، لمواصلة أفضل وأعمق فيما أرجو.

على أن ما يعنينا هنا هو الجانب الفكري من أزمة الفلسفة. ولهذا أكتفي بالإشارة باختصار شديد، إلى أن عصرنا الراهن، أردنا أم لم نرد، رضينا أم لم نرض، هو عصر سيادة حضارة أوروبا الرأسمالية، التي فرضت نفسها وأصبحت حضارة العالم، ولقد تميزت هذه الحضارة عند نشأتها بسيادة العقل، والتطلع إلى توسيع آفاق الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان عامة، وأصبح العقل هو مفتاح عصر جديد من المعرفة، والتقدم والحرية والازدهار الثقافي والإنساني عامة، وإن اختلفت الأبواب التي راح هذا المفتاح يسعى لفتحها، فديكارت يفتح باب الأنا أفكر، مميزا بين الفكر والمادة الممتدة، وكانط يفتح باب التنوير والقضايا القبلية، ونقد الفكر إبستمولوجيا.. وهيجل يفتح باب الدولة التي تجسد الروح المطلقة، ويتصور أنه أغلق بهذا باب التاريخ كله، وماركس يلج بالجدل المادي من باب الصراع الطبقي بين الطبقة الرأسمالية السائدة المسيطرة والطبقة العاملة الصاعدة، مبشرا بعالم جديد تتحقق فيه الوفرة والمساواة والحرية، وينتهي فيه الاستغلال.

وفرويد يغوص في أعماق اللاشعور والحلم، فاضحا الجذور العميقة الدفينة لمظاهر سلوكنا العقلاني، رابطا بين التحضر عامة وضرورة الكبت والقمع، ونيتشه يعلن موت الإله، ويطرد الأخلاق المسيحية من عالمه، ويسلح إنسانه الأعلى بإرادة القوة والاستعلاء، وتدخل بنا المكتشفات العلمية والتكنولوجية الباهرة إلى قلب الذرة، وترتفع بنا في رحلة على سطح القمر، وتزيل المسافات المكانية، وتكاد تزيل المسافات الثقافية بالتفاعل أو بالاستتباع للقوى الأكبر.

1996*

* كاتب مصري «1922 - 2009»