1

تميز الشيخان محمد بن عثيمين - رحمه الله - وصالح الفوزان، بالدقة العلمية، وهنا أعرض أمثلة لما تميزا به في هذا المسار.

المثال الأول: أذكر أني كتبتُ في رسالتي الدكتوراة (لا يمكن الجهاد إلا بإذن ولي الأمر)، فوضع شيخي صالح الفوزان - حفظه الله - وهو المشرف على رسالتي، وضع خطًا تحت كلمة (لا يمكن) وأبدلها بكلمة (لا يصح)، وقال يمكن أن يذهب بعض الناس للجهاد دون إذن ولي الأمر، لكنه لا يصح شرعًا.


المثال الثاني: أذكر أن أحد القضاة كتب لشيخي ابن عثيمين رحمه الله خطاباً جاء فيه (أما بعد: فإن حامل هذا الخطاب معروف عندي بالصلاح والاستقامة.. إلخ) فسمعتُ شيخنا يقول، هذا خطأ، وهو من المؤاخذات على القاضي، ووجه ذلك: أن القاضي لم يذكر اسم حامل الخطاب وهويته، بل قال: إن حامل هذا الخطاب، فلو ضاع الخطاب من حامله، وحمله رجل فاسق، فإن ما كتبه القاضي من تزكية ينطبق عليه.

المثال الثالث: كتب أحدهم (وهذا أوهى من بيت العنكبوت) فمسحها شيخنا، وقال (أوهن البيوت بيت العنكبوت) فلا أوهى منها.

المثال الرابع: قال أحدهم (سبحان من أمره بين الكاف والنون) فقال شيخنا: هذا غلط، والصواب بعد الكاف والنون لأن الله تعالى قال ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فبعد (كن) يكون، وليس بينهما.

2

إن قيل: من المعلوم أن الحجة هي لأهل الإسلام على أهل الكتاب وغيرهم من أهل الأهواء، فما معنى قوله تعالى ( لاحجة بيننا وبينكم) ؟.

فالجواب كما يقول السعدي رحمه الله: بعد ما تبينت الحقائق، واتضح الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فإنه ( لاحجة بيننا وبينكم) لأنه حينئذٍ لم يبق للجدال والمنازعة محل، لأن المقصود من الجدال، إنما هو بيان الحق من الباطل، ليهتدي الراشد، ولتقوم الحجة على الغاوي، وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب لا يجادَلون، كيف والله يقول: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }.

3

مما يُدفَع به شر العدو الحاسد ما أشار إليه ابن القيم بقوله (الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله، ولا يستطل تأخيره وبغيه، فإنه كلما بغى عليه، كان بغيه جندًا وقوة للمبغي عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيه سهام يرميها من نفسه، وقد قال تعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ }، فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقَّه أولًا، فكيف بمن لم يستوفِ شيئًا من حقِّه؟!

4

وقال أيضا: (فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي، وتسلَّط عليه خصومُهُ شيء أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته: أن يعكس فِكْره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها والتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغٌ لتدبُّر ما نزل به، بل يتولَّى هو التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولَّى نُصرته وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعدَه من عبدٍ، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسنَ أثَرَها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطيَ لما منع، فما كلُّ أحد يُوفَّقُ لهذا، لا معرفةً به، ولا إرادةً له، ولا قُدرةً عليه، ولا حول ولا قوَّة إلاّ بالله.

5

أكون في غبراء الناس أحب إلي، هذا ما قاله رجل أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفصيل ذلك بالحديث الآتي (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس رضي الله عنه فقال له: أنت أويس ابن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرَن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم منذ قرن كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل. فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، فقال: تركته رث البيت قليل المتاع. رواه مسلم.