نشأت المعرفة مع بداية الخلق، حيث تشكلت بالطابع التراكمي، وصولاً للمعرفة الإنسانية، ومع ظهور المعرفة بدأت ظاهرة «الاستبداد الفكري» بالظهور كفجوة سوداء يسودها الظلام، بما تحتويه من أفكار وسلوك يؤثر في الإنسان والمجتمع.

ينشأ الاستبداد الفكري، حينما نتعامل مع ثقافة ترفض الآخر ولا تقبله، فهي من الآفات المؤثرة بشكل سلبي في أي حراك فكري يهدف إلى البناء، فالشخصية المستبدة تقوم بقمع كل من يخالفها الرأي أو الفكر، على كافة المستويات؛ السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والأخلاقية، والدينية.

فنجد بعض التيارات تبث أفكارها المضللة فيما يخدم أجندتها المتطرفة، وتغتال أي محاولة لنقاش أو نقد هذه الأفكار، بزعم أنها تحافظ على قيم المجتمع من الانحراف والتمسك بثوابت الدين، لتحويل ثقافة المجتمع إلى خزعبلات وفكر منحرف، وإلغاء الفكر الإنساني الذي هو ثمرة ثقافتنا التي لابد أن نؤمن بواقعها وحقيقتها.

معرفة مكامن الخلل في أدبيات بعض التيارات الحالية دون نقدها يعتبر خطأ جسيما؛ لأن عدم نقد هذه التيارات يعتبر شكلا من أشكال عدم المسؤولية تجاه الوطن والمجتمع الذي قد يفضي فيما بعد إلى حدوث تلوث فكري، يكون له تأثير سلبي في مجتمعنا على المستوى الوطني و الأمني والاجتماعي.

فضلا على أن النقد يعتبر ترشيدا، وتوجيها وتصحيحا للمسار الفكري لهذه التيارات، والمتعاطفين معها من الانحراف ودفعها إلى الأمام بشكل إيجابي، بما يخدم مصالح الوطن والمجتمع، وتنقيته من أفكاره السلبية التي ترتكز على القمع الفكري، مما يسببه شل حركة العقول، فتصبح عائقا نحو التقدم. لا شك أن الأضرار التي يتركها الاستبداد الفكري كظاهرة في قمع كل فكر مغاير له، يعتبر استبدادا بالرأي، وهذا أمر له أثر كبير على كافة المستويات السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والأخلاقية، بل يؤدي هذا الاستبداد إلى صناعة مجتمع خال من المفكرين والمبدعين، وتنعكس بشكل سلبي على المجتمع.

من سماحة ديننا الحنيف أنه كفل حرية الرأي، والاختلاف فيه، ضمن الحدود الشرعية والأدبية، حيث قال الإمام الشافعي رحمه الله: «ما ناظرت أحدا فأحببتُ أن يُخطئ، وما كَلَّمت أحداً قط إلاَّ أحببتُ أن يوفَّق ويُسدّد ويُعان، وما كَلَّمت أحداً قط إلا ولم أبال بيَّنَ الله الحق على لساني أو لسانه».. حيث إن الاختلاف بالرأي، هو في رحابة التنوع في الآراء، وأن الاختلاف سُنَّة من السُنن التي فطر الله الناس عليها، ولولا الاختلاف، لتوقفت حركة الحياة وتطورها، ولما وُجد إيمان.. قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، مختلفين في أديانهم ومعتقداتهم و ومذاهبهم وآرائهم، فلابد من وجود الاختلاف.. حتى ينضج الفكر، وتتطور العلوم، وتتسع الفسحة الفكرية، أمام عامة الناس، والحُكَّام، والعلماء، والكتَّاب والمثقفين.

وكان شعار الشافعي على الدوام: "رأيي صواب يَحْتَمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يَحْتَمل الصواب"؛ إذ ليس لأحد أن يقول إنه يملك الحقيقة المطلقة، غير نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك قال العلماء: "كلٌ يؤخذ منه ويُردّ إلاَّ صاحب هذا المقام"، مقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- القائل: "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"، فلابد للاختلاف أن يظل قائما وموضع نقاش، بكل موضوعية ورقي؛ حتى يصل المختلفون إلى الحقيقة التي لا لبس فيها.

فالمرونة الفكرية مطلوبة حتى لا تفقد الفكرة الأساسية ثوابتها الإستراتيجية، لكي تتاح لها فرصة المناورة والتفاعل مع الآخر بهدف إثراء تلك الأفكار، وتعزيزها بما يخدم الواقع وإيجاد حلولاً لا متناهية له بفضل تلك المرونة، بعيداً عن التعصب والانغلاق الفكري، فلن يكون مصيره إلا الاستبداد والانعزال والتقوقع على أفكار بالية وشعارات زائفة ليس لها صلة بالواقع.

فالاستبداد فكرة أحادية الجانب مهيمنة بذاتها، علي مُخيلة المستبد، التي لا تورث سوى القمع والتخلف والجهل الاجتماعي، وإلى التناحر والتشدد وإصابة المجتمع البشري بالهزيمة الدائمة.