قَلِّبْ ما شئت من مؤلفات القدماء، فسترى أنَّ المؤلفين كانوا يهتمون في أكثر الأحيان بمحاربة الرذائل الاجتماعية، ولا سيما الغيبة والنميمة؛ لأنهما من أخطر أسباب القطيعة بين الناس.

أما المؤلفون في العصر الحاضر، فيرون الغيبة والنميمة من الموضوعات البالية التي لا تصلح لأقلام المُحْدَثين.

وإني لأكتب هذه الفقرات في هيبة وحذر؛ خشيةَ أن يقول قائل: ما هذه الرجعة إلى أوهام الأولين!.

يسألني من أرى من الأصدقاء: أين تسهر؟ وأين نراك؟، والسهرات عند هؤلاء هي جلساتٌ سخيفة، تؤكل فيها لحوم الناس، ويجري فيها من السفه والبذاءة، ما يندى له الجبين!، ويا ويل من تَكْرُمُ عليه نفسُه، فلا يشترك في لغو الحديث، فهو عندهم ثقيل الظل، بارد الأنفاس!.

والتطرف في عصرنا هو مضغ أخبار الأدباء والشعراء والمؤلفين، وفي شباب اليوم أفراد يعيشون من هذا الرزق الحرام، فهم زينة الأندية الرقيعة التي لا تجري فيها كلمةُ خير، ولا تَعْرِف زواياها غيرَ الإفك والبهتان من عبث القيل والقال.

وفي كهول اليوم طوائفُ تتلمس هذه الأنواع البشرية التي تحسن تلفيق الأراجيف والأكاذيب.

وإنك لتعجب كيف يتفق لمن يسمونهم «أدباء الشباب» و«أدباء الكهول» أن يجيدوا شيئا وهم يقضون ثلاثة أرباع الوقت في تلك الأحاديث الممجوجة التي تتنافر مع سماحة الطبع، وسلامة الذوق، ورجاحة العقل.

العزلة.. أين أسهر؟. أنا أسهر في بيتي، حيث آنس بوحشة الليل،

فقد ضجرت من إخوان الزمان، وعادت الوحدة أحبَّ إلى نفسي مِنْ صحبة مَنْ يلبسون ثوبا للمحضر، وثوبا للمغيب.

أين من يعرف أدب النفس في هذه الأيام؟ وأين الرجل الذي تثق بكرمه ومروءته؟ وتطمئن إلى أن أذنه لا تفتح لأهل اللغو والفضول ممن يبعثرون النمائم ذات اليمين وذات الشمائل؟.

وأين من يزن ما يقول، ويفكر في عواقب ما يقول؟ وأين من سَلِم أديمُه في هذا البلد، فلم تمزقه الأقاويل والأراجيف؟.

دلونا أيها الناس على رجل واحد سلم عرضُه وشرفُه، وحُفِظَ معروفُه وجميله، واستطاع الفضل أن يحميه من لغو المرجفين وكيد المفسدين.

لقد صحبت طوائف من المصريين وطوائف من الأجانب، وانتهيت إلى النتيجة الآتية: الغيبة والنميمة من الرذائل الإنسانية، يقع فيها المصريون وغير المصريين.

ومع هذا لاحظت أن المثقفين من الأجانب قد يستبيحون الاغتياب، ولكنهم لا يستبيحون البهتان؛ فالرجل قد يغتابك، ولكنه يتحرَّج من أن يصفك بما ليس فيك، وقد ينم، ولكن نمائمه خالصة من المفتريات.

أما المثقفون منَّا - وا أسفاه! - فيجمعون بين الرذيلتين: النميمة والافتراء.

ومعنى هذا أنَّ من الأجانب من يعصمه الحياء من خَلْقِ الأكاذيب، وأنَّ فينا من تنقصه فضيلة الحياء.

إننا نتحدث كثيرا عن الوطنيةِ، والوطنيةُ لا تقوم إلا على فكرة الوطن،

والوطن لا يُحَبُّ إلا حين يكون لنا فيه أصدقاء وأخلاء؛ فإنَّ الموداتِ والعلاقاتِ هي أساس التقديس للأفكار والأشخاص.

أيها المغتابون والنمامون! أنتم أعداء الصدق والكرامة والوطنية، وأنتم أعداء أنفسكم لو تعلمون!.

1923*

* أديب وكاتب مصري «1892 - 1952»