بعيداً عن التحالفات العسكرية، إن أردنا حصر التكتلات السياسية التي تجمع دولاً ببعضها البعض، سنجد أن ذلك محصوراً ببضع أصابع في اليد الواحدة. وهذا ما يمنح مجلس التعاون الخليجي موقعاً بارزاً، ليأتي بعد الاتحاد الأوروبي الذي ولد على أسسٍ مقاربة لكيان دول الخليج السياسي.

والفروقات واضحة بين الكيانين السياسيين – الخليجي والأوروبي - نظير الترابط الاجتماعي الذي يجمع دول مجلس التعاون التي تنحدر شعوبها من قبائل وجذورٍ متداخلة اجتماعياً منذ مئات السنين، وهذا أبرز العوامل التي خدمت استمرار وبقاء التكتل السياسي الموحد.

والتجارب السابقة شاهدة على وقوف شعوب دول المجلس الست على قلب رجل واحد قبل الحكومات، وأبرزها حرب تحرير الكويت، التي شارك بها جميع أبناء دول الخليج، وقدموا التضحيات وكأن الكويت وطناً للجميع.

والتجربة الثانية هي الحرب ضد جماعة الحوثي المارقة في اليمن، إذ تقف المجتمعات والحكومات على مسافة واحدة من ضرورة الدفاع عن أراضي المملكة العربية السعودية، التي تواجه حرباً بالوكالة عن إيران يقوم بها مجموعة من «الصعاليك» الذين سيطروا على حكم البلاد وأحرقوا الحرث والنسل وقتلوا العباد.

ولا يمكن غض الطرف عن بعض مراحل الفتور التي طرأت على مشهد دول مجلس التعاون الخليجية، إلا أن ذلك لم يكن بمثابة عامل اهتزاز يضر بهذا الجسد أو يسهم بتفككه، وما ذكرت سابقاً من تلاحم اجتماعي كان أحد أسباب الثبات التي تجاوزت من خلاله الحكومات على اختلاف أو خلاف قد طرأ في مراحل تاريخية سابقة.

إذن من هذا المنطلق نستطيع قراءة وإدراك التوجيه الملكي الصادر عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز – رعاه الله – لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، المُرتكز على إيمانٍ مطلق بضرورة رص الصف الخليجي في هذه الظروف السياسية والتاريخية التي تمر بها المنطقة، ناهيك عن الرغبة الصادقة بالتشارك في صناعة مستقبل أبناء تلك الدول، الذي يكفل لهم مواصلة التلاحم والبناء في آنٍ واحد.

أتصور أن العقود التي ستبرم في جولة ولي العهد خير دليل على التطلع لصناعة الأمان المعيشي لشعوب منطقة الخليج. ومن ثم وهذا الأهم وفق ما أتفهمه؛ فإن عملية التلاحم الخليجية لا تعني حصر علاقات دول الخليج ببعضها البعض فقط، فهذا غير منطقي، والأكيد أن الخليجيين لا يمانعون بناء مزيد من العلاقات مع دول الجوار وغيرها، وهذا بطبيعة وثقافة الإنسان الخليجي، المعروف عنه ميله للعلاقات المتعددة دون النظر لذلك بلغة نفعية ومصلحية. وحتى أصدق القول، بالضرورة الإقرار بوجود كثير من الخلافات والاختلافات على سبيل الاستشهاد مع الجمهورية التركية، والإيرانية.

وهذا صحيح ويستحيل إنكاره مع مراعاة أن كل اختلاف مع الدولتين له طابعه وأسبابه ومبرراته الخاصة. إلا أن الأرضية الخصبة لبناء علاقات خلاقة مع هذه الدول وغيرها متوفرة وفي جميع العواصم الخليجية، باعتبارها دولا تحرص على مستقبل المنطقة بالعموم، ولم ولن تكن في يومٍ من الأيام حريصة على مناصبة العداء لأحد.

وأجزم أن لدى صانع القرار السعودي الاستعداد للجلوس مقابل أي طرف من الأطراف للوصول إلى حلول مرضية ومقبولة من الطرفين.

وما الحوار الذي دخلته الرياض مؤخراً مع طهران إلا دليلاً واضحاً على رغبة صادقة بوجود تفاهمات بين العاصمتين، بل ويمكن العودة لحديث ولي العهد قبل أشهر، حين أبدى رغبة المملكة ببناء علاقات مميزة مع إيران، كونها دولة جارة ويمكن أن تكون هناك مصالح كبرى متبادلة.

أعود للحديث عن الزيارة التي يقوم بها ولي العهد لعواصم سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة وقطر ومملكة البحرين والكويت، وأجيب على سؤالٍ افتراضي، حول إمكانية تبني هذه الرحلة لبادرة حسن نوايا من شأنها أن تُزيل بعض الشوائب العالقة في علاقة بعض من دول الكيان الخليجي؟.

الجواب: نعم، لا سيما وأن هذه الجولة تستبق قمة لزعماء دول مجلس التعاون الخليجي المزمع أن تلتئم في الرياض منتصف الشهر الجاري.

أعتقد أن هذه القمة دافع كبير للقفز على أي اختلاف قائم بين دولةٍ وأخرى.

أؤمن بما لا يدع للشك مجالا أن رحلة ولي العهد من بيته إلى بيته الآخر، لم تكُن برداً وسلاماً على بعض العواصم والكيانات المناهضة لوحدة الصف الخليجي.

وأنا على يقين أن البعض أخذ على عاتقه التحضير لتغيير قواعد لعبته في التعامل مع هذه المنظومة الموحدة اجتماعياً وسياسياً. وتملأني الثقة بنهاية المطاف أنهم سيفشلون، مثلما فشلوا مسبقاً في دق إسفين ذهب ضحية الحكمة الخليجية، وأقصد هنا الأزمة مع دولة قطر الشقيقة.

فقد جنّد لها الكثير مئات من وسائل الإعلام ومنصات التواصل الحديثة، إلا أنه في لحظةٍ تاريخية تغلبت علاقة الرجال بالرجال، على كل تلك المخططات والمؤامرات، وعاد الأخ لأخيه، باعتبار أن ذلك يستند على عدة أمور، أهمها التجانس الخليجي، والأخوة وليس التآخي، ووحدة المصير.

بقي الإشارة إلى هذه الجولة التي لا يمكن أن تكون بمعزل عن اتفاق العلا الذي أبرم قبل حوالي عام، بعد أن قدم الجميع تنازلات افترضت معادلة «لا غالب ولا مغلوب» بمقابل الحفاظ على البيت الخليجي الكبير.

إن الحضارة والتاريخ والإرث الاجتماعي الخليجي، وباندماجها مع التحديث والتطوير الذي تشهده دول مجلس التعاون، هي منبع الإصرار على مواصلة الحفاظ على هذا الكيان وهذا النسيج، والذي أثبتت الوقائع أنه بشعوبه وحكوماته، على قلب رجُلٍ واحد. والشواهد عديدة، لكن الشهود قليل، ونحن ماضون في رحلتنا وإرثنا وحضارتنا التاريخية، والكثير ينشغلون بنا.

اللهم لا تشغلنا بأحد غيرنا،نهاركم سعيد.