في خضم المعركة الكونية بين الأنوثة والذكورة، دخلت الإبل لعبة الحقوق، دفاعا عن حقوق الناقة المسلوبة في عالم السوق، بعد انتصار البعير الساحق، ودخوله عالم الحداثة من أوسع الأبواب، وتوظيفه لقيم السوق، ليصبح عنصرا فاعلا من عناصر عصر الحداثة، بعد أن روج لمفاهيمه الذكورية الإقصائية، وهي أن سلوك البعير يتسم بالعقلانية، في حين أن الناقة تطغى عليها العاطفة، التي تؤثر سلبيا في قراراتها. لذلك أصبحت الناقة في عالم المال والأعمال لا تعامل على قدم المساواة مع البعير، لا لأي سبب سوى كونها ناقة.

ولأن الناقة تدرك أهمية اللغة في بيولوجيا الثقافة أو ثقافة البيولوجيا، وفي كيمياء المشاعر وحرب الدلالات النصية، فقد أخذت على عاتقها مهمة تأنيث اللغة، فقررت أولا أن تسرق اللغة من أفواه البعارين، وتدخل عوالم النقد الأدبي وفضاءات الشعر، وتوظفها لمواجهة السلطة الأبوية للبعير، فهي تدرك أن اللغة أهم عامل من عوامل القوة الثقافية، ويشير مصطلح «الأبوية» هنا إلى علاقات القوة التي تخضع في إطارها مصالح الناقة لمصالح البعير.

صارت المساواة بين الجنسين مطلبا، لأن الناقة تعتقد أنها يجب أن تحصل على الفرص والحقوق نفسها التي يحصل عليها البعير، واللغة بطبيعة الحال أفضل حل لإحداث تحولات نوعية، ترجح كفة الأنوثة على الذكورة. ونستطيع القول، وبكل ثقة، إن الناقة نجحت في سرقة اللغة من فم البعير، وتحطيم نظامه الأبوي ونسقه الرمزي، لذا نجد في اللغة العربية مفردات كثيرة وصفات لا حصر لها للناقة، في حين لا نجد سوى النزر اليسير من الألفاظ في وصف البعير، المهزوم في عالم اللغة والأدب. ففي عالم «أدب البعارين» كانت اللغة منحازة إلى التأنيث منها إلى التذكير، والناقة في الشعر الجاهلي صارت وكأنها انعكاس لصورة البشرية في أطوار سحيقة من التاريخ، وكأن الناقة هنا تريد إثبات أن الأمومة هي الأصل، والأنثى هي مركز الكون، بينما الذكورة ليست إلا فرعا تابعا ومهمشا.

حضور صورة الناقة في خطاب الشعر الجاهلي كثيف وطاغ، وينزع نحو تفضيل الأنوثة، واحتلالها مكانة رفيعة في عالم الأدب. في حين ظل البعير مهمشا ومستبعدا بصورة تعسفية. حتى حضوره في الشعر جاء خاليا من أي صور فنية أو بلاغية، مقارنة بحضور الناقة الذي أصبح تقليدا إبداعيا ينتهجه غالب الشعراء الجاهليين. صورة الناقة في القصيدة العربية أخذت حيزا كبيرا من دراسات القدماء والمحدثين. في حين ظل البعير مهمشا ومقصيا، لا أحد يلقي له بالا.

في عالم الأدب، انتصار الناقة في المعركة الكونية بين الذكورة والأنوثة يعود لإدراكها أهمية اللغة، حيث صورت الناقة في قصائد الجاهليين وكأنها معبودة قديمة أو أسطورة لديمومة واستمرارية الحياة في بيئة قاحلة مقفرة، فالناقة هي المنقذ للشاعر من الضلال والضياع في القفار الشاسعة، وهي القادرة على تحمل الصعاب، وتذليل مشاق الطريق، وفي محرابها يبوح الشاعر بهمومه وأحزانه.

فالناقة في الشعر الجاهلي ليست مجرد حيوان، حيث احتلت مكانة عظيمة عند العرب بلغ حد التقديس. في حين همشت الثقافة الأنثوية البعير المغلوب على أمره، وفرضت عليه العيش على هامش المجتمع.

خاضت الناقة نضالها الأزلي تجاه الذكورة، واقتحمت ميادين البعير في الواقع الفعلي، ولم تبق في البيت لتحافظ على جو السكينة والألفة من أجل الأسرة، بل فضلت أن تخوض معركتها الثقافية، وتهيمن على اللغة، وتغزو عوالم الشعر، وكأنها «شهر زاد» الحكواتية. لكن البعير في عصر الحداثة لم يقف موقف المتفرج، وقرر أن يخوض معركته الخاصة تجاه التسلط الأنثوي في محيط اللغة والأدب، ويقلب الطاولة على غريمته الأزلية (الناقة)، فهو يدرك حجم التحدي والاضطهاد الذي تتعرض له جموع البعارين بسبب الثقافة الأنثوية البالية.

قرر البعير دخول عالم السوق والأعمال من أوسع الأبواب، والبحث عن النجاح الفردي، والسعي تجاه الثروة، فالبعير يباع اليوم بعشرات الملايين، ودخل عالم الاستعراض والفرجة مثل الناقة تماما. والفرجة، كما نعلم، تحرك عالم الأشياء في فضاء السوق. أصبح البعير يستعرض قوامه الممشوق وجسده المتناسق أمام المتفرجين، وهذه الفرجة ليست مجانا، بل هناك حركة رأس مال تحدث خلف الكواليس، يسهم فيها البعير، ويكسب من خلالها المكانة والتقدير. إن دخول البعير عالم السوق أصبح يقلص بدرجة كبيرة الفوارق الطبقية بين البعير والناقة، ويقلل إلى حد كبير من وطأة الأنوثة، ويمنح البعير شيئا من الاهتمام والتقدير.

يدرك البعير جيدا مقدار انحياز اللغة للناقة، حتى صار التأنيث أصلا في أدب البعارين، مما جعل الناقة تتبختر غرورا، معتقدة أن اللغة هبة خصتها بها العناية الإلهية، وهي منحة منها تهبها إلى البعير متى شاءت، وتستردها متى شاءت. فالبعير يخوض ضد الناقة حربا خاسرة في عوالم الأدب والشعر والثقافة الأنثوية المتسلطة، وهذا ما جعله ينقلب لكائن براغماتي وراديكالي، يؤمن بالنظرية الرأسمالية كنموذج تفسيري للصراعات الاقتصادية بين الأنوثة والذكورة، حيث إن التحديات الثقافية، وكل التحيزات على أساس النوع، يمكن أن تفسر على أساس التطورات الاقتصادية، ومن يدير علاقات الإنتاج بشكل أفضل. لهذا نجح البعير اقتصاديا، واستطاع توظيف أدواته الاقتصادية في مجابهة الأنوثة والأنثوية.