بعد أن كبرت، وصرت معروفا للقرّاء على نطاق واسع من خلال اشتغالي بالصحافة. كل عمل أدبي نشرته في مطلع حياتي الأدبية كنت أتعجّب كيف وافقوا على نشره مع أنه في نظري مجرد محاولة لا ترقى إلى المستوى الذي رجوته لنفسي، قياسا على ما أقرأه من روائع الأعمال الكبيرة الباهرة في الأدب العالمي، الذي انفتحت عليه بفضل احتكاكي بشبان المقهى، خاصة بكر رشوان ومحمد عبدالمعطي حجازي.

وصحيح أنني قرأت في سنوات الصبا كل ما نشرته سلسلة روايات «الهلال» من ترجمات للأدب العالمي، حيث كان أبي مواظبا على شراء الشقيقات الثلاث: روايات الهلال وكتاب الهلال ومجلة الهلال بانتظام وحرص.

كما قرأت المئات من روايات الجيب وروكامبول، إلا أن الأدب العالمي ذا القيمة الرفيعة بترجماته الدقيقة البديعة الأساليب لم أتعرف إليه جيدًا إلا في دمنهور بتوجيه - غير مقصود - من شباب جمعية أدبائها. فعبر مترجمات دار «اليقظة» البيروتية، ودار «الشرق» الروسية، ودار «المعارف» ودار «النهضة» المصريتين، قرأت تولوستوي وديستويفسكي وتشيكوف وجوركي وبلزاك وإميل زولا وفولتير وفلوبير وهيرمان ملفل وشتاينبك وهيوارد فاست وتوماس مان وجيته وشيلي ولورنس وديكنز وبيرل بك وويلز وجول فيرن وأندريه جيد وموروا وهوجو وتوماس هاردي وسرفانتس، وغيرهم وغيرهم.

ومن حسن حظي أن سلسلة مطبوعات مجلة «الكاتب المصري» بكاملها كانت موجودة في مكتبة المقهى ومكتبة البلدية. أما سلسلة مطبوعات «كتابي» لحلمي مراد، فكنت أشتريها لرخص ثمنها، وكذلك سلسلة «الكتاب الذهبي».

وكان الحظ سخيا معي حين تعرفت إلى زميل ليّ في معهد المعلمين العام، يدعى مصطفى محمود حمدان، وكان مدمنًا للقراءة، فقادني إلى اكتشاف أذهلني: عرفني على مكتبة «الحوفي»، مكتبة عتيقة في شارع خلفي وراء مديرية دمنهور متخصصة في بيع وتأجير الكتب القديمة بقروش زهيدة، تضم تلالا وجبالا من الكتب والدوريات الثقافية الثمينة، لكن صاحبها محمود الحوفي يعرف كل ورقة فيها، وحين يريدها ينقضّ عليها مباشرة، فينزعها دون تقليب.

وقد تجد عنده كتبا صدرت في الشهر الراهن نفسه، قرأها ناس واستبدلوها بغيرها. نظامه أنك تشتري منه الكتاب، فإن أردت إرجاعه بعد قراءته تدفع قرشًا نظير القراءة، يخصمه من الثمن الذي تقاضاه سابقًا، وإن أردت كتابا غيره دفعت فارق الثمن، وهكذا.

باتت هذه المكتبة بالنسبة ليّ أشبه بصندوق الدنيا، فما من كتاب جاءني نبأه أو حلمت بقراءته، قديمًا كان أو حديثا، من التراث الشعبي أو من الأدب العالمي المعاصر إلا وجدته عند «الحوفي»، يمد يده ويسحبه ببساطة وسلاسة دونما عناء أو في محاولة للتذكر فيما هو واقف وراء بنك خشبي، يعالج فوقه بعض الكتب المهترئة، يلصقها بالصمغ أو بعجين الدقيق العلامة، ويصنع لها أغلفة بديلة من ورق الملفات السميك.

عبر هذا البنك الحميم، قرأت ما لا حصر له من الكتب، وتوثقت علاقتي بالكتاب القديم، وإن كان حديث الصدور، فقدمه يفتح شهيتي للقراءة بصورة عجيبة، ربما لأنني أستشعر في صفحاته أنفاس الآخرين وبصماتهم، وبعض تعليقاتهم على بعض الهوامش، على الرغم من أنني أمقت عادة الكتابة على هوامش الكتب.

يؤنسني الكتاب القديم، ولا سيما إن كان من عصور مضت وأزمنة غابرة، فحينئذ ترتفع متعتي إلى حد النشوة، حيث إن القراءة المكثفة آنذاك بالنسبة ليّ كانت أشبه ببرازخ مياه انفتحت على أرض شرقانة، فأحيت ما في باطنها من مكونات نباتية، فصارت تنبت نباتات شيطانية مجهولة الهوية، وإن كان من الممكن أن تصبح ذات قيمة ما لو أنني وعيت بها، ووضعتها في شكل من الأشكال الفنية المتعارف عليها. كانت محض كتابة أدبية، لا هي بالشعر ولا بالقصة ولا بالمسرحية ولا بالمقالة، إنما هي فيها من كل هذا كطبق من السلطة الأدبية.

شطرات متتالية تشبه الشعر المنثور. حوارات متفلسفة على أنساق توفيق الحكيم.

مشاهد من الحياة، تقليدا لصور يحيى حقي. صور أدبية تحليلية تشبه كتابات إبراهيم المصري. خواطر مبهمة بصياغة باذخة مكثفة مثل كتابات الدكتور بشر فارس، مواقف عنترية على غرار السير الشعبية، عبارات مسكوكة مثل المأثورات والطرف والملح.. إلخ.

وكان أبي قد نصحني وأنا صبي بأن أحتفظ بكشكول أنقل فيه - بخطي - فقرات مما يعجبني فيما أقرؤه، وألخص فيه الكتب التي تروقني، فكان هذا الكشكول أشبه بكرنفال غاية في الطرافة، لكنه صاحب الفضل الأكبر في تقوية ذاكرتي الأدبية، وتحسين أسلوبي، وربطي بأمهات الكتب، وكان أيضا صاحب التأثير فيما رحت أكتبه آنذاك مما أصبحت أسمّيه «اللغط الأدبي» أو «المنوعات الأدبية غير الرشيدة».

حتى قصة «المأساة الخالدة»، التي كانت أول شيء متماسك ومحدد الملامح أكتبه، لم تكن في حقيقة أمرها إلا أصداء شديدة السذاجة مما قرأته، اتعجنت في بعضها، آخذة شكل قصة رومانسية موهومة. فيها من إسكندر ديماس الكبير، ومن عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي وإبراهيم الورداني وسومرست موم وموريس لبلان والجاحظ وطه حسين، صاحب «المعذبون في الأرض» و«شجرة البؤس».

كانت خليطا عجيبا من اللغط والأصداء والاقتباسات الكثيرة المدخولة في السياق بصورة تنكرية.

2005*

* روائي وصحافي مصري «1938 - 2011»