إذا كان التحول الحاسم، الذي طرأ على العالم في السنتين الأخيرتين، إعلانا مدويا عن انتصار القيم الفردية، أليس من المحتمل أن تكون فيه هزيمة للإنسانية؟. إنني أعتقد أن قيما إنسانية رفيعة قد رفعت الراية البيضاء، وأعلنت استسلامها دون قيد أو شرط في اللحظة التي تبين فيها أن الإنسان لا يقدم أفضل ما لديه إلا إذا كان يعمل في مشروعه الخاص. ذلك لأن هناك معيارا للسمو الأخلاقي كان يزداد رهافة على مر العصور، هو ذلك الذي يخرج فيه الإنسان عن إطاره الخاص، وعن ذاتيته المطلقة، ويعمل - ولو جزئيا - من أجل الآخرين.

في هذا الاتجاه كانت تسير فلسفات البشر وعقائدهم الدينية الكبرى منذ بداية تاريخها. صحيح أن واقع الناس كان في معظم الأحيان مختلفا عن هذا الأمل، وأن المبادئ السامية، التي تذكر الفرد بأن يسلك من أجل غايات تتجاوز نطاقه الخاص، كانت تلقى مقاومة دائمة، بل كان المتشائمون يرون فيها سذاجة بالغة، على حين يراها المتفائلون مثلا أعلى يستحيل بلوغه كاملا، وإنما يكفي الاقتراب منه بدرجة أو بأخرى. هذا كله صحيح غير أن المنحنى العام للتاريخ الأخلاقي والمعنوي للبشرية قد سجل بالفعل اتجاها عاما، لا تخطئه العين، نحو تجاوز الإنسان ذاتيته، وعمله من أجل أهداف أوسع وأشمل، مما يدخل في نطاق مصالحه الخاصة أو مصالح الأقربين إليه.

هذا الاتجاه العام قد سجل، بالطبع، في ميادين السلوك الأخلاقي والاجتماعي. أما السلوك الاقتصادي الإنتاجي فيبدو - في ضوء الشواهد التي كنا نتحدث عنها منذ قليل - أنه لم يرتفع بعد إلى هذا المستوى. فما زال الإنسان، في الميدان الاقتصادي، يعمل وينتج على أفضل نحو حين يعلم أن عائد عمله سيرتد إليه، بينما يتراجع عمله وإنتاجه وقدراته الابتكارية نفسها إذا كان يعلم أن المنتفع من عمله، في المحل الأول، هو المجتمع ككل، وأنه سينال من عمله ذلك النصيب الذي تحدده المصلحة الشاملة لذلك المجتمع. فالحافز في الحالة الأولى أقوى ما يكون. أما في الحالة الثانية، فإنه يتضاءل إلى أدنى حد.

التسليم بهذا الواقع، الذي نراه من حولنا مجسدا ملموسا، هو في الوقت نفسه اعتراف بأن الدوافع الذاتية - وأكاد أقول الأنانية - ما زالت هي الأقدر على حفز الإنسان إلى بذل المجهود، وهي حقيقة مؤلمة، ولكن لا سبيل إلى إنكارها. ويؤدي الاعتراف بهذه الحقيقة إلى إعادة تقييم أساسية لذلك الانتصار الساحق الذي أحرزه المشروع الفردي، الذي يهلل له العالم في هذه الأيام. ففي رأيي أن هذا المشروع الفردي قد أحرز انتصاره هذا ليس فقط لأن تجربة التنظيم الجماعي للعمل قد طبقت بأسوأ الطرق، وأبعدها عن الإنسانية، بل أيضا - وهذا هو الأهم - لأن هذه التجربة قد جاءت سابقة لأوانها. وأنا أعني بذلك أن المحاولة التي بذلت لبناء مجتمعات على أساس العمل الموجه لمصلحة المجموع، لا لمصلحة الأفراد، قد استخدمت في تطبيقها أساليب قمعية منفرة، ولكن الأهم من ذلك، والذي جعل فشلها أمرا محتوما، هو أن الإنسانية حين طبقت هذه التجربة لم تكن قد نضجت بعد إلى الحد الذي يجعل الأفراد يضعون مصلحة الجماعة ككل قبل مصالحهم الخاصة، وقبل التفكير في نفعهم الذاتي.

لقد كانت المحاولة من حيث المبدأ العام، وبغض النظر عن التفاصيل الفلسفية الدقيقة، والتطبيق الشديد الغباء، سعيا نبيلا إلى تحقيق مصالحة بين التطور الأخلاقي للإنسان وسلوكه الفعلي في ميدان العمل والإنتاج، وإلى سد الفجوة بينهما. ولكن من الواضح، في ضوء ما حدث، أن الإنسان لا يزال في حاجة إلى وقت طويل وتجارب كثيرة لكي يحقق هذه المصالحة، ويسد هذه الفجوة.

1990*

* أكاديمي وباحث مصري «1927 - 2010»