للرعيل الأول من الأدباء فضل لا يجحده إلا من لم يقدر لذوي الجهود جهودهم، ولكن ليس معنى ذلك أن هؤلاء أجادوا في ما كتبوه، وكيف تتيسر لهم الجودة قبل أن تتوافر لهم أدواتها الكاملة، فهم لا يجدون طريقا ممهداً ولا أرضاً معبدة ليبنوا عليها القصور الشواهق والحدائق الغناء، وإنما وجدوا طريقا كله صخور وحفر، فكان همهم منصرفا لتعبيد الطريق، كما قال المازني عن نفسه وعن زملائه من الرعيل الأول للأدباء في مصر، وما يصدق على أولئك يصدق على هؤلاء.

ولكن الرعيل الأول من أدباء مصر لم يكفهم أن يعبدوا الطريق لبني غيرهم ويقبعوا هم في أكواخ العمال، بل راحوا بعد أن توافرت لهم أسباب البناء يبنون القصور الشم، ويغرسون الحدائق الفيح، ولم يسمحوا لأنفسهم أن تكتفي بمجهودها الأول، ولا بما نالته من شهرة، وبذلك أثبتوا لنا أنهم كما يحسنون العمل بأداة العامل، يحذقون العمل بريشة الفنان الماهر.

وأبوا إلا أن يكونوا عمالقة الأدب العربي في عصرنا الحديث، وسيكون من بعدهم عيالا عليهم أرادوا ذلك أم لم يريدوه. فهل صنع رعيلنا الأول صنيع أولئك؟!.

إن تحسن الإجابة على هذا السؤال: (نعم) فلا يحسن أن نكتفي بها، فإننا إذا بحثنا عن مصداقها نجد كثيرين من الرعيل الأول نفضوا أيديهم من الأدب واستروحوا الراحة في البعد عنه، كالعامل الذي علقت به الأتربة والغبار وأضناه العمل، فنفض يديه منه، ليستروح الراحة في ظلال كوخه الحقير.

أما الباقون فمنهم من لم يحاول تجديد نشاطه، ليكون لنتاجه رواء العزيمة التي لا تعرف الكلال، فجاءت آثاره مطبوعة بما ناله من جهد وضنى، وأولئك الذين لا يحسن بنا أن نتركهم يعبثون بحرمة الأدب، ولا أن نتركهم فريسة الغرور، بل من الرحمة أن ننبههم لما وصلت إليه حالتهم من الجهد والإعياء لعلهم يعالجون أنفسهم بعد أن ينبهوا إلى الخطر المحدق بهم، فلا نفجع بفقدهم على غرة من المجال الأدبي.

ومنهم من لم يعد صالحاً للحياة الأدبية، وخير لهؤلاء أن يستريحوا من عناء الأدب، ولهم في رصفائهم الذين نفضوا أيديهم من الأدب أسوة حسنة.

أما الذين ما زالوا يبذلون للأدب من نفوسهم ما يجعل آثارهم تفيض قوة وحيوية، فأولئك الذين نضع أيدينا في أيديهم متعاهدين على ألا تُتْرك حياتنا الأدبية يعبث بها أدعياء الأدب ومن أدركهم الكلال إلا أن يجددوا نشاطهم. لنقدم لشبابنا أدباً صحيحاً قويا نظيفاً فقد طال بنا الأمد، ونحن نقبل الآثار على علاتها، أما الآن فلا نقبل منها إلا كل ما يثبت للنقد ويصلح للحياة، حتى لا يبقى مجال لأحد إلا لذي الفن الصحيح، وبذلك نأمن على مستقبل الذوق الأدبي في بلادنا ولا نصاب بالنكسة فيه، ونمشى قدما في إشادة مجدنا الأدبي الحديث.

لقد مرت ـ كما قلت – ثلاثون سنة ونحن نعالج الأدب نتاجا وقراءة، وكنا نأمل بعد هذه المدة الطويلة أن نرى أدبا أقل ما يقال في حقه أنه أدب صحيح تشيع فيه الحياة ويبشر بمستقبل طيب. أما أن نرى فيه الغثاثة، ونلمح فيه تجرده من روح الفن الأصيل، فهذه هي النكسة بعينها وذلك ما لا يحتمله المخلصون للأدب، والمجاهدون في سبيله.

بعد ثلاثين سنة من كفاح أدبي – قراءة ودرساً ونتاجاً ونقداً وتمحيصاً وتوجيها – يصدر العدد الممتاز من جريدة (البلاد السعودية) بتاريخ 66/4/3 م فأتناوله بلهفة.. لهفة من نأی عن بلاده ولا يزال نائياً عنها ولها في نفسه الحنين، ومن قلبه الحب، فهو يعيش في مصر بجسمه، وفي بلاده بفكره وقلبه ووجدانه، ويتطلع إليها كما يتطلع الظليم إلى أمه، ويستنشق روائحها في كل ما يصل إليه منها.

1966*

* ناقد سعودي «1920 -2011».