قال فوكو ذاتَ يوم: «ربما سيأتي يومٌ يصبح فيه القرنُ دولوزيًّا». مع اختلافاتِ تأويل هذه الجملة، إلا أنني أرى لها وجهًا مُغايرًا، وهو أنَّ دولوز حين قرأ الفلاسفة، لم يكن يشرحهم، بل كي ينتج فلسفة تتقدم بهم، أي أنَّ طريقة دولوز تحقق المعنى الفوكوي، أي أن تكون المعرفةُ لا تستقر على حال. ومن هنا كانت رؤيته للفلسفة بأنها صناعة المفاهيم. وكما يقول: «لكن المفهوم لا يُعطى، وإنما يُبدع». وفي هذا السياق يحضر مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة بصفته أطلقَ مفردة (اللا متوقع) كموضوع يتعاطى من خلاله المتحدثون، أي أنه تركهم في مساحاتٍ مفتوحة، وكأنه يطلب منهم ابتكارًا لمفهومٍ؛ وهذا أمر قد يكون رائعًا، إلا أننا نجد المؤتمر يدخل في موجةٍ ضبابية مُتوترة، ويُضَيّق رؤيته ويحددها في دائرة أضيق من سمّ الخياط، فأولُ ما نجده أمامنا هو تعريف المؤتمر الميتافيزيقي للفلسفة من حيث أسئلة الماهية: «من نحن؟»، «ما المنطق الذي يحرك فهم الفرد لموقعه في العالم؟»، «ما الجمال؟» لكنه يريد من المتحدثين ألا يطرقوا الموضوع المطروح انطلاقًا من هذا التعريف؛ ولهذا نراه يتوجّه للمحاضرين ليقول لهم: «إنَّ مفهوم اللا متوقع يجب أن يحصر في التقدم العلمي والتقدم السريع لتطبيقات التكنولوجيا، والأخلاق. وذلك لبناء شراكات إستراتيجية مع كافةِ الجهات المعنية من القطاعات الحكومية والخاصة وغير الربحية من جهة، وليساعدنا المؤتمر على مواجهةِ التحديات اليومية». إذن بإمكاننا أن نقول: إنَّ المؤتمر حرر المتحدثين لكنَّ الحرية هي بمساحة صغيرة، كمن يقول لإنسان -بعد أن سجنه- في غرفة: أنا لم أقيد يدك. وهو مع ذلك ليته ضبطَ مساحات الغرفة، وديكورها، وموضعها من العالم؟ كي يتفلسف المتحدثون بمنهجٍ مثمرٍ. ولتفهم الجهات المستهدفة: لِم هي مستهدفة؟!؛ ومن هنا كانَ المتحدثون: «كُلٌّ يغني على ليلاه». ولو نظرنا في أصلِ موضوع المؤتمر لوجدناه مرتكِزًا على الهم العلمي؛ لدرجة أن يُطلق على الفلسفةِ عِلمًا؛ فيُقال: علم الفلسفة! ولفظ «علم الفلسفة» مختلف عن فلسفةِ العلم، تلك التي تُفكر في العلم، من جوانب عدة: أبرزها، التفكير به بصفته ظاهرة اجتماعية، أو أن يموضع العلم ضمن القيم الإنسانية، أو أخذ نتائج العلم، لتشييد فلسفة له، أو التحليل المنطقي للّغة العلمية، أو سؤال ماهيته...إلخ. إذ حين نُقدم لفظ العلم على الفلسفة، فإننا نرتكز على لفظ (علم) الذي أصبح موشومًا بالمنهج الإنجليزي، حين ربطه بالعلم التجريبي، ولا ندري كيف يمكن أن تكون الفلسفة علمًا بهذا المفهوم الموشوم؟، أما لو قدمنا لفظ (فلسفة)؛ فإن ارتكازنا معتمد على الاستقلالية الفلسفية ومشاركتها في تحديد مسارات الواقع؛ ومن هُنا فإنَّ لفظةَ (اللا متوقع) أُظهرت بلباسٍ فلسفيٍ متحرر، لكنَّ المؤتمر يُضمر -في لا وعيه البروباغندي- قمعَ الفلسفة، وإعلان موتها من خلال انتصاره للعلم، وتوجيه بوصلة التفكير في المؤتمر نحو نتائجه المتوقعة/‏المرادة/‏المرغوبة، من خلال النتائج العلمية التي تحولت إلى برادايم/‏ نموذج للتفكير، وهو -في الآن نفسه- يقول: فَكِّروا في اللا متوقع على سبيل الانفتاح الفلسفي!! ومن هنا فإنَّ المؤتمر جعل معنى التوقع من الموقع/‏ الارتكاز، ومن ثم يريدك أن تنطلق إلى اللا متوقع من الارتكاز، وهو هنا الرؤية العلمية المتحققة بمناهجها من جهة، والرؤية النافذة في سياسة الاقتصاد العالمي من جهة ثانية، ومن علامات ذلك ما تجده في عنونةِ المحاور فمثلا نجد محورًا ينصّ على (الجانب الجيد لمفهوم اللا متوقع في الفلسفة) فإذا كان مفهوم اللا متوقع لم يُضبط كي يتحرر المتفلسفون من النموذج -كما أشرتُ في الأعلى- فكيف نحدد معنى للجانب الجيد منه ونتحدث عنه أيضًا؟! ومن هنا فإنَّ مفهوم (الجيد) مقابل السيئ كثنائية، تعني -بشكل من الأشكال- تعريفًا محددًا للا متوقع وتحويله إلى ما هو (متوقع) مما يلغي الانطلاق الحر الفلسفي في تشكيل المحور الأساس كما ذكره المؤتمر: «حدود وإيجابية الفلسفة في مواجهة الأزمات غير المتوقعة، والحاجة إلى تطوير أنماط فكرية جديدة لتحويل ما هو غير متوقع إلى مسؤولية إنسانية مستدامة» ولنلحظ أولًا: لفظ (حدود وإيجابية) ولنتصور أي انطلاق فلسفي يمكن أن يواجه الأزمات وهو محدود، ووُضِع بين يديه معطى مسبق للإيجابية؟ ثم لنلحظ ثانيًا: لفظ (الأزمات غير المتوقعة) تلك التي أحضرت في المؤتمر: الحديث عن أزمة (كورونا)؛ فنجد أنفسنا أمام توجيهٍ لمعنى التوقع ومن ثم اللا متوقع!؛ ومن هنا كان اللا متوقع هو (متوقع) في النظر والتفكير ضمن واقعنا العالمي في اقتصاداته، ثم لنسأل ثالثا: كيف نجمع لفظ (غير متوقع) مع (المسؤولية المستدامة)؟ واللا متوقع يُفترض أن يكون مفهومًا سلبيًا لكل تمركز، أي أن يكون اللا متوقع كسرًا لكل حالة إخضاع يفرضها علينا الواقع المصنوع علميًا، ومن ضمنها أن تُسجن الفلسفة في مناهج العلوم ونتائجها. وأخيرًا يأتي سؤال: هل العلم يخاف من اللا متوقع الفلسفي؟ وأعني إذا انطلقت الفلسفة من عقال التوقع العلمي في منهجيته وإزاحاته واضطهاداته، فهل تُشكل خطرًا على العلم، ومن ثم وجب إزاحة الانطلاق الحر للفلسفة، وتقييد تفكيرها فيما تصنعه النظرية العلمية؟ وهل لنا حينها أن نُطلق على المؤتمر اسم: مؤتمر الرياض لفلسفةِ نتائج العلوم؟! وهل المؤتمر -هنا- سيكون بمعنى الائتمار أي: «الهَمُّ بالشيْءِ»، كما جاء في لسان العرب، ومن ثمَّ تحديد ماهية الشيء؛ إذ جاء في أساس البلاغة للزمخشري أنه إذا قيل: «فلان مؤتمر أي مستبد»؟ ثم نطرح السؤالَ المهم عن ال تفكير باللغات نفسها، تلك التي نعيش من خلالها، أعني أنَّ المؤتمر اختار لفظة (اللا متوقع) ويُريد منها أن تُعبر عن تاريخ اللفظ غير العربي من جهة، وتحديد جزئية (المتوقع) من جهة ثانية؟ من خلال أنك حين تقول لا متوقع فإن ذلك متوقع.