لعلنا نجد تماثلا كبيرا مع الاختلاف بين الاتجاه ما بعد الحداثي والمدارس الحدسية والشعورية في الفلسفة الحديثة لا عند نيتشه وهايدجر فحسب، بل في فلسفة الظاهريات كذلك. وفي مواجهة مدرسة ما بعد الحداثة هذه، نجد مدرسة أخرى ذات موقف نقدي للعقلانية الأداتية القمعية كذلك، ولكن من دون أن تتخلى عن العقل، بل تسعى لإعطائه مدلولا إنسانيا اجتماعيا تاريخيا فاعلا.

نتبين الإرهاصات الأولى لهذه الفلسفة عند الفيلسوف الإيطالي المناضل أنطونيو جرامشي، وبخاصة في رؤيته للفلسفة وفي امتدادها عند الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير مع إضافة بنيوية. كما نتبينها في مدرسة فرانكفورت، ثم نتبينها، أخيرا، بشكل أكثر تحديدا في فلسفة هابرماس ونظريته التواصلية أو الاتصالية بوجه خاص.

والفلسفة عند جرامشي ليست نسقا متعاليا من التصورات أو نشاطا عقليا خاصا بفئة من العلماء والفلاسفة المحترفين، بل هي نشاط فكري تلقائي يقوم به الناس جميعا تعبيرا عن تصوراتهم للعالم، ولهذا فكل إنسان فيلسوف، والفلسفة موجودة في كل الأنشطة والتعابير والمعتقدات وأشكال السلوك الإنسانية، يمتصها الإنسان منذ ولادته خلال علاقاته وممارساته المختلفة، على أنه كما يقول لا بد من الانتقال من هذا الموقف الامتثالي الاستقبالي إلى موقف التلقي الإيجابي بأن يتخذ الإنسان موقفا نقديا لا بالنسبة لتصوراتنا الخاصة فحسب، بل للتصورات الفلسفية السابقة والراهنة، وبهذا تنتقل الفلسفة إلى حالة الوعي النقدي وتحقق للإنسان استقلاله التاريخي.

على أن الأمر لا يقف كما يرى عند الجهد الفردي، وإنما يمتد إلى ضرورة العمل على نشر الفلسفة اجتماعيا وتسليح الناس بها.

الفلسفة بهذا ليست مجرد فكر إبداعي في المطلق، كما رأينا عند دولوز بل هي فعل تثقيفي نقدي اجتماعي تغييري.

وهو بهذا يلخص مقولة ماركس المشهورة: «الفلسفة لا تسعى إلى تفسير العالم بل إلى تغييره كذلك». ولكن لعل أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني ونقد الطابع التقني الوضعي القمعي، ومحاولة تنمية البعد الموضوعي الإنساني للعقل هو الفيلسوف الألماني المعاصر: يرجن هابرماس.

ولهذا يطلق على مفهوم العقل عنده العقل التواصلي أو الاتصالي، وهو أبرز الفلاسفة المعاصرين تصديا لاتجاه ما بعد الحداثة، وبخاصة في نقده لفوكو وديريدا ودولوز وامتداداتهم في الفكر الألماني المعاصر.

والعقل الاتصالي عند هابرماس هو فاعلية تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه، فضلا عن نقده للاتجاهات اللاعقلانية والشعورية والحدسية..

وتتسم دراسات هابرماس الفلسفية، بالتداخل بين الدراسات الإبستمولوجية والاجتماعية والسيكولوجية والسياسية والثقافية والأخلاقية والعلمية في برنامج دراسي منهجي موحد.

إنه صاحب رؤية عقلانية نقدية مفتوحة على مختلف الأنشطة والاجتهادات والأوضاع الإنسانية في تفاعلها الأفقي وفاعليتها العمودية التاريخية، ولهذا يرى أن «التفاعل الاجتماعي» وهو أيضا بعد أساسي من أبعاد الممارسة الإنسانية، وليس الإنتاج وحده، وانطلاقا من هذا النقد تتضح فلسفته التي تقوم على مفهوم الاتصال أو التواصل. على أن هذه الرؤية الفلسفية ذات التوجه العقلاني النقدي الجدلي الموضوعي الإنساني الشامل الملتحم بقضايا العصر ومشاكله وخبراته ومنجزاته الاجتماعية والعملية والتكنولوجية لا تعني- من ناحية- القطيعة عن معالجة القضايا التقليدية المتخصصة في الفلسفة وتاريخها، في مجال الوجود والمعرفة والقيم سواء في التراث القديم أو الحديث، بل ستغني هذه المعالجات المتخصصة برؤية تاريخية ومنهجية متجددة، كما أنها لا تعني- من ناحية أخرى- إغفال الخصوصيات والخبرات الثقافية والقومية والعقائدية في كل بلد من البلدان في العالم، بل تحتم أن تكون بعدا أساسيا في هذا الوعي العقلاني النقدي الجدلي الإنساني الشامل. فالرؤية الإنسانية الشاملة- في تقديري- لا تلغي الخصوصية القومية والثقافية، كما أن هذه لا تلغي تلك، بل يمكن أن يقوم بينهما تفاعل مثمر، فالعام كامن محايث في الخاص، والخاص طاقة تجديد وتطوير للعام، بالوعي الموضوعي النقدي والممارسة الإبداعية المشتركة.

كما أنها لا تعني- من ناحية ثالثة- تغليب ما هو طبيعي على ما هو ثقافي، أو ما هو ثقافي على ما هو طبيعي، بل تتطلع إلى إلغاء هذه الثنائية الضدية الاستبعادية تحقيقا لوحدة الإنسان، بين ذاتيته الوجودية وموضوعيته الإنسانية والكونية، بين جسده وروحه، بين فرديته ومجتمعيته، بين كينونته وصيرورته، بين حياته في الضرورة وضرورة الحرية في حياته، بين معرفيته وإبداعيته.

ولهذا نجد العديد من المؤتمرات والندوات الفلسفية في العالم اليوم تحتدم حواراتها حول قضايا ذات طابع إنساني شامل، وتجمع ما بين ما هو ثقافي وما هو طبيعي، مثل قضايا التنمية وقضايا العلوم والتكنولوجيا الحديثة كعلوم الوراثة والفيزياء، والمعلوماتية والاتصالية ومناهج العلوم الاجتماعية والتاريخية ومشكلاتها ودلالاتها الجديدة في حياة الإنسان، إلى جانب قضايا البيئة الاجتماعية والطبيعية والكونية، والسلام، وقضايا المرأة والعلاقة بين الثقافات أو الحضارات المختلفة والصراعات الدينية والقومية والعرقية إلى غير ذلك. هذه في تقديري هي أبرز هموم الساحة الفلسفية في عصرنا الراهن التي تحتدم حولها الأسئلة والحوارات والصراعات والاختلافات والاجتهادات العلمية والأيديولوجية وهي في مجملها تتواكب مع الطابع الانتقالي للأوضاع العالمية الراهنة، ولهذا نجد أنها أسئلة وإجابات نقدية مفتوحة على هذه الأوضاع الجديدة أكثر منها أنسقة فكرية نهائية منغلقة أو يقينية اللهم إلا لدى التيارات الأصولية الدينية المتزمتة أو القومية أو اليسارية المتعصبة. 1996* نافذة: المؤتمرات والندوات الفلسفية في العالم اليوم تحتدم حواراتها حول قضايا ذات طابع إنساني شامل، وتجمع ما بين ما هو ثقافي وما هو طبيعي .

1996*

*كاتب وباحث مصري " 1922 - 2009"