هل يوجد حقيقة انتساب حضاري اسمه عربي، وهل وجدت يوماً حضارة عربية؟. الجواب نعم على السؤالين، فكل شخص لغته الأصلية هي العربية عربي، والحضارة التي حكمت وكتبت وقرأت وشرعت وبحثت وعلمت باللغة العربية هي حضارة عربية باللغة والأسماء والأنظمة الإدارية من غرب آسيا إلى جنوب القارة الأوروبية.

ذلك الدور التاريخي الذي حمله العرب كرسالة وحضارة وتصالح مع أنفسهم ومع العالم، خرج من الصحراء القاحلة المعرفة جغرافياً وتاريخياً بجزيرة العرب. هذه الصحراء لم ينلها من مكاسب تلك الحضارة سوى العقوق.

تشكل منذ بدايات القرن الثاني الهجري نقيضان، عرب المياه والأشجار والظلال في الشمال والشمال الغربي، وهؤلاء نسوا وأهملوا المكمل الآخر عرب الشمس والرمال والآمال الأصليين. في النهاية عصف داء العقوق والتفاخر بعرب المياه والظلال والأشجار وفرقتهم الأنانيات شذر مذر في هجرات هروب من الدمار والجوع والعطش والقتل الذي صنعته أيديهم بهم.

والآن تلوح في الأفق بوادر أمل جديد أن تستعيد الصحراء الأم المهجورة زمام المبادرة مرة أخرى لمصالحة العرب مع أنفسهم ومع العالم، ولبناء حضارة جديدة بعد إزالة الركام التاريخي عن أنقاض الأولى.

قبل ما يقارب السبعين عاماً غمرتني دهشة الطفل الصحراوي المنقطع عن التواصل مع العالم عند سماع الراديو لأول مرة. عرفت وقد أدمنت الاستماع ما أمكنني لذلك الصندوق الناطق وجود مجتمعات عرب آخرين تختلف كثيراً عن عرب الصحراء الحفاة.

هنا القاهرة، هنا بغداد، هنا دمشق، هنا بيروت، وتصدح وتطربني الأناشيد عن النيل والرافدين وبردى والزبداني والخضرة والأزهار والثمار والحسناوات الغاديات الرائحات الملاح. كنت طفلاً ناحلاً ناشفاً في مجتمع لا يعرف من الثمار والفواكه غير التمر والبطيخ، ومن الحسناوات غير الزميلات الشهباوات ذوات الجدائل المضفورة والعيون النجل السود. كنا معهن نلعب ونتسابق ونتصارع بكل براءة على رمل وحصى الطريق. في الابتدائية والمتوسطة تأكد لي من دروس التاريخ الوجود الفعلي لتلك الربوع النهرية في الشمال. من دروس التاريخ ومن الوعود المبثوثة في الراديو نمت معارفي عن ملحمة الانتقال الصحراوي قبل ألف وأربع مائة عام لتشيد حضارات مجيدة في بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان والأندلس.

مع تراكم معلوماتي عن ذلك التحول الحضاري الضخم، نمت تطلعاتي وتصديقي لوعود العودة العربية الكبرى للأمجاد وسعادة البلاد والعباد من تطوان وصنعاء إلى مسقط وبغداد. كانت فواتح شهية لوجبات السعادة الموعودة تلقفتها ببساطة المكتفي عن الغد باليوم وبانتظار الرفاهية المبثوثة بالراديو من الشمال، ولحسن حظي كانت تلك الوعود متزامنة مع بشائر نهضة حضارية مدروسة بعناية في جنبات الصحراء لأهل هذه الصحراء بعد نجاح تركيب ما فككته العنصريات القبلية وشح الموارد وتعديات العجم والترك وأزلامهم من عرب الشمال والجنوب. ثم كبرت وتعلمت وتطورت داخل التنفيذ الحقيقي لعودة التأهيل الحضاري للصحراء بهمة ورؤية عملاق منهم، وفيهم اسمه عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه، ولفيف طموح من رجال تنادوا لمشروعه الخيالي الكبير.

كان المنغص الوحيد على تطلعاتي الطفولية آنذاك التساؤل المتكرر في عقل طفل صحراوي، لماذا لم يكن للحجاز ونجد واليمامة وشرق الدهناء وديار طي وليلى وقيس بن الملوح نصيب من حضارات وثمار أهل الشمال والغرب العربي، فلاهم كفوا صحراءنا خيرهم وشرهم ولا قرامطتهم وعملائهم الغازية مع جيوش العجم والترك.

لم يكن أبناء العمومة واللغة والأصل الحضاري في بلدان المياه والثمرات والظلال أمناء، لا مع أوطانهم ولا أوفياء للصحراء التي حملتهم أمانة الرسالة الأولى لنقلها إلى العالم.

ثم استدار الزمان وتحولت ربوع الأنهار والثمار إلى الجفاف والعطش والجوع والتدمير الذاتي والخوف، بينما تحولت الصحارى القاحلة إلى واحات شبع وري واستقرار وإعمار.

الآن بدأت إرهاصات نهضة جديدة ثانية من ذات الصحراء الأم الأولى، والمطلوب من أبناء العمومة في الشمال والغرب والجنوب هو الحياد فقط والكف عن العقوق، وعدم التصرف كقرامطة جدد ضد الصحراء مع العجم والترك والروم، لكي تصل هذه الصحراء معهم ما قطعوه، وإنما الأعمال بالنيات.