ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل على حد علمي، فإن معارك سياسية اقترب كثير منها إلى مرحلة «كسر العظم»، نشبت بين الدول التي تجرم هذا التنظيم الإرهابي، ودول تعتمد النرجسية السياسية ولا تجد مانعاً من مشاركة هذا التكتل السياسي الخطير في الحياة السياسية من خلال مسلك ما يسمى «الديمقراطية».
وأعتقد أن تصنيف الجماعة «إرهابياً» غير كاف، على أقل تقدير لدولة كالمملكة العربية السعودية؛ باعتبارها تعيش حالة جديدة من الحياة الاجتماعية والسياسية في آنٍ واحد، وذلك بالنظر إلى ارتباطات الجماعة الإرهابية التي قضت عليها ووضعت حداً لنفوذها، وأعني البقية الباقية المؤيدة للجماعة بصمت، أو من بعيد لبعيد، سواء على صعيد الأفراد أو الجماعات، وذلك لنسف مبادئ قيام الفكر الأساسي الذي يعتبر قاعدةً لولادة تلك الجماعة، التي أثبت التاريخ على أقل تقدير خلال العشر سنوات الماضية، أنها تنتهج التسلق على الحالة الاجتماعية وصولاً لموضعٍ سياسي يُهمش ثقل ومركزية الدولة، رغم جهلها السياسي، وابتعادها في الوقت ذاته عن السلوك الدعوي الذي يفترض أن يكون عنوانها العريض على حساب السياسة وليس العكس.
وعلى أساس ما سبق، أجد أن ما يعرف بـ«جماعة الدعوة والتبليغ»، أو كما يحلو للبعض تسميتهم بـ«الأحباب»، إحدى الأوراق التي تخدم أهداف جماعة الإخوان المسلمين، بل وتجسد قوة ناعمة تخدم المشروع الكبير المُعنون زيفاً بعودة الخلافة الإسلامية للحكم.
ولي تجربتي الخاصة مع أحد عناصر «الأحباب» قبل سنوات، إذ تلقيت دعوة من قبل أحد المعارف للمشاركة في فعاليات تسعى الجماعة لتمريرها على البسطاء، بتغليف ديني، والتصوير بأنها قائمة على الزهد والتفكر والتدبر، بينما في نظري تؤكد تأكيداً قاطعاً عن امراض نفسية تنغمس فيها تلك الشخصيات التعيسة، وذلك ما استنتجته من تلك الدعوة لممارسة بعض الطقوس، في قلب الصحراء، خلال أشد أشهر السنة حرارة في شرق المملكة! كان استناد الرجل حينها أنني صحفي ليبرالي أو علماني بحاجة إلى النظر للحياة بمنظور الزهد المزيف الذي ينتهجه هو وجماعته. رفضت الدعوة وقابلتها بكثير من التهكم، وتدنت قيمتي لديه منذ ذلك الوقت وحتى هذا اليوم.
وذلك لا يهم. وفي حقيقة الأمر حينها من باب العبث الصحفي، ومحاولة فهم واقع يعتبر جديدا علي، لجأت للقراءة عن هذه الجماعة التي تتظاهر بالشكل اللطيف وتستند على التأثير العاطفي والوجداني للفرد، وعرفت أنها كانت نابعة من الهند، عام 1926، وانتشرت حينها في باكستان وبنجلادش، على يد زعيمٍ سعى بشكل آو بآخر لكسر الشكل السياسي لأنظمة الدول الإسلامية من الناحية الاجتماعية، وهرول وراء صناعة أكبر حشد مؤيد للفكرة. وبلغت فكرته مع الوقت دول العالم العربي والإسلامي من بينها دول الخليج. والمريب والمخيف، أنه بالنظر إلى قواعد المؤيدين لـ«الأحباب» بعد أكثر من 70 عاماً على ولادتها، يظهر أن دولة الكويت تتصدر القائمة من حيث أعداد المنتمين للجماعة، ومن ثم السعودية بحسب ما فهمت من اطلاعي. وقد أكون مخطئاً في ذلك.
لكن ما يلفت الانتباه من خلال البحث في واقع هذه الجماعة «الأحباب»، يتضح أنها متلونة، وتجيد فن ارتداء الأقنعة وتغيير المواقف. كيف؟ كونها تنتهج نهجاً تحاول أن يكون في شكله العام بعيداً عن السياسة، وأنها جماعة دعوية، تعمل على النصح والوعظ ودعم الفضائل الأساسية للإسلام، وهذا إفك يستند على كثير من الضلالة أو التضليل، باعتبارها تعي أنها مكملة لمنهجية جماعة الإخوان المسلمين، التي تستند على «الحاكمية»، وهو المفهوم المغلف بغطاء شرعي، لكن هدفه الأول والأخير سياسي عميق؛ ناهيك على شبهة اقترابها إلى حد كبير من الطبيعة أو الصيغة الصوفية في السلوك والعبادة. علي الاعتراف بأني أصبت بكثير من الرعب، حين قرأت بعضاً من كتاب للشيخ حمود التويجري– رحمه الله– بعنوان «القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ». يقول الشيخ في كتابه صفحة 20 «وبحسب ما بلغني من بعض الثقات، أنهم يرون ألا طاعة لولاة الأمور عليهم، ولذا يبيحون الغش والخديعة والتزوير. وفعلاً يستغلُ دُهاتهم بُلههم، باسم التبليغ في التجارات المنحرفة ومخالفة القوانين».
ويبلغ الشيخ التويجري في كتابه مبلغاً يحتوي على كثير من الخطورة النابعة من إدراك خبث هذه الجماعة، ويقول «يُعرف عن هؤلاء أنهم يتربصون بالحكومة السعودية، والجامعة الإسلامية، لإعداد العدة واستعمال القوة لإعلاء كلمة الله، يتربصون بها الدوائر، عليهم دائرة السوء، لإعجابهم ببدعتهم، وغفلة الناس، عن بدعتهم هذه ومداها».
أستخلص أن البحث بدهاليز وتفاصيل هذه الجماعة التي لا تختلف عن أي جماعة متطرفة أو تعمل على تأسيس الإرهاب وهي ترتدي اللون الوردي، أمر مُنهك ومتعب بما لا يُستهان به، نظير اكتشاف كثير من الكذب والخداع والتزييف والرغبة في خلط أوراق دول آمنة تعيش أعلى درجات الاستقرار والتفاهم بين الحاكم والمحكوم، كما يحدث في المملكة، ودول الخليج بالعموم. إن الفصل بين الجماعة المعلومة ببغضائها لاستقرار دول المنطقة، وأعني الإخوان المسلمين، الذين برهنوا بالدليل الواقعي كراهيتهم لدولهم– وما ثلة أنقرة المارقة– إلا دليل يمكن الاستشهاد به، وعدم ربطهم بجماعة الدعوة والتبليغ، فيه جرح كبير لحالة التناغم السياسي والاجتماعي، التي تتميز بها دول الخليج وعلى رأسها المملكة، ومن هذا المنطلق فإن وضع الجميع في موضع واحد، بات فرض عين، وواجبا تفرضه السلامة من أخطار هذه الكيانات المتطرفة.
صحيح الحقيقة مرة، قد أرتضيها أنا وغيري من الموصوفين بـ«العلمانية» كما أطلق علي صاحب تلك الدعوة، ويرفضها حتى لو بالصمت، بعض المنبطحين، أو السذج، والمندفعين، فهذا طبيعي، وليس عائقا في نهاية المطاف.
وحجتي في قولي هذا، إننا نريد أن نكون طبيعيين. لا أكثر. تخطتهم المرحلة التاريخية.
وحان وقتنا.
جاء وقت الحياة.
احترقت أوراقهم وتبخر مشروعهم.
فاتهم القطار.