أحن إلى عشر سنوات خلت، وعشر تزود، أحن إلى ما كنت عليه وما كنت أفعل أحن إلى مصدر فرحي، ومصدر حزني، أحن إلى طعامي، ومنامي، أحن إلى ملبسي، وما كنت أبدو عليه، أحن إلى سنين خلت، ولن تعود، أحن إلى حماسي وقلبي النابض بما أريد أنا وحدي، أجلس أمامك وأتأمل، أنظر للنافذة وهي تمطر، وطعامي في حجري، أجمعه بيدي وأمسك شرابي بيدي الأخرى، لا هم يذكر، لا ثقل على عاتقي.... أحن لشعوري ذاك، أحن لما أفتقده بكل خلية في كياني، أحن إليه كثيراً، بشدة بقوة لم أشعر لها مثيلاً طيلة السنوات الماضية..

أحن إلى الصباح، والمطر يهدر، وألصق وجهي بالنافذة ولأرقبه بالساعات الطوال، أحن لما كنت أقوم به، يوم تلو الآخر، في الصباح الباكر، أحن له كثيراً شعرت بما أفتقده وذكرت ما كنت أملك، أريده بشدة الآن لم تقف دموعي عن محاكاة السيول، لن أكف عن الحنين لأشعر بذلك الشعور لو لدقائق. أحن لذاك اليوم الذي أكتشف به عالما جديدا، أشياء جديدة، أصواتا جديدة، وقصة لم ولن أعيشها أبد الدهر، وكلمات تتواتر رغماً عن المحبين..

أحن لك، عندما كنت تجزع رغماً عن كبريائك الواضح، وتقول كل ما لا تريد قوله، لأن قلبك ينبض لي وبي. أحن لما فقدته، أحن له كثيراً، حنيني يسلب مني قوتي.

وأنا أمام حنيني ضعيفة.

أحن لذاك اليوم، عندما نركض ويتطاير شعري في الهواء، وأطير على الأرض، ونخرج في الشمس البديعة ونقول لبعضنا ما يسكن غرف قلوبنا الصغيرة!

أحن لقلبي الجريء، ورائحة الزرع الجديد والخيمة التي تسبح في عالم خفيف الوزن، أرضه تعيش في، وأسقيها كلمي المتواصل!

لم أكن أسكت ولم أسكن!

أحن لقلبي الحائر ومبسمي إلي يُظهِر أسناناً تهس بحروف ذات صفيرٍ واضح...

أناديك دوماً لنمشي معاً في الشمس الذهبية على أرضنا نحن<

أحن ليديّ النحيلتين، اللتان ترتفعان وتتحركان يمنة ويسرة عندما أجري، وأسقط وأضحك على نفسي، أو أبكي من الألم!.

أضحك وأبكي من نفسي على نفسي راضية عن نفسي، وأحن لنفسي القادمة!.

حنين في حنين، حنين ماض، وحنين قادم!! وحنين لن يأتي، وحنين منتظر آجل! كل ما أعرفه أن حنيني هذه الليلة قوي لا أقواه كما كل مرة، وأن حنيني الليلة اجتاحني عنوة عندما سمعت صوتاً أعرفه من سنين وسنين.

وفاجأني حنيني هذه الليلة بصلافة لم أعهدها، فأنا أكبح حنيني دائماً، ولا مرة غلبني بهذا العنف، سفك دمي وأحرقني، أهدر دمعي وتوطأ قلبي بجبروت مخيف!!.

نمشي في هذه الدنيا كتبا ثم أحذية، ترابا ثم أغطية، على أمل أن نخرج لنرى ما بعد ذلك، لكن أعيننا تتغير، أفكارنا، أمخاخنا، مشاعرنا، شعورنا وحتى شعرنا! ولا شيء نراه بعد ذلك.

نأبى ألا نكبر لنكبر قسرا! وقهرا! لا نعرف ما هو الأصلح لنا فنحن صغار، ما زلت أتذكر دموع الحسرة التي ذرفتها بحرارة علمت على خدي!.

أخرج لأتنزه في غابات اللاوعي، وأنتظر الطير ليطير وليتحول لخيالي المملوء بأشياء لتنسكب خارج ذاكرتي بسرعة تكاد تهلكني... تنسكب ذاكرتي بسرعة لتتبخر أسرع.. يا للهول! تحدث أشياء لا نريد حدوثها، وما نريد حدوثه هو بذاته لا يريد أن يحدث! لماذا؟ أين العدالة؟.

واها لي.. أخرج لأتنزه حول المباني التي تتخم عقلي، ولا تستوعب نقلي، لأنني لست وفية لها، لم عليها أن تكون وفية لي بدورها؟ هل هذا عدل؟ نعم! لأنني أريده كذلك.

أتصارع مع ما لا أعرف بكل ما أوتيت من قوة لأنتصر ساعات أو لأدحر، لكنني لا أحب الخسارة، وكلما خسرت أعاود الكرة مجددا، أكثر ما عرفته في حياتي كلها أن أعاود الكرة أكثر من مرة حتى أنتصر وأرفع جائزتي لتراها!.

أنت المعني بهذا النصر، املأ نظرك أو أدر وجهك، سيصلك الخبر كحربة الرمح في كل مرة....

لذيذة هي انتصاراتي....... عليك! كلها أهديها لك، مغلفة بباقة ازدراء، تأتيك باسمك يا عزيزي!

مع مرسول صلح جاهل! لتسيء فهم براءة لم تكن تتوقع أن تنضج مبكرا! .

حنيني صب في كل مشاعر الدنيا، منها ما أعرف ومنها ما لا أعرف ولن أعرف.

تصالحت مع حقائق كهذه، ووجهت كل جهودي في الظفر بكل ما يلمع، وبكل ما لن أشعر به، لكنني أحن إليه بقوة. تتحرك قدماي رغما عني للبيت المهجور، دمر تدميرا مرعبا لم أر له مثيلا حتى في الخيال، هيروشيما ناعمة بقلب يرى أنه يعرف مصلحتي أكثر مني، وبقلبي الذي سلم بحقيقة الخديعة الحادة، المسمومة، الخبيثة!.

عانقت نفسي ولم أشعر بالأمان لحظة واحدة، وما أكثر وعودك لي بأنك ستكون الحائل من دون قساوة الدنيا، لتكون أنت قساوة وبطش الدنيا!.

أنت من أمطرت علي بالحمائم التي تتدثر بثوب المخلص، أنت أنت الوسيط للعنات والخسة والكره الذي لم أعرفه ولن أعرفه.... أنت المدمر، أنت المارد، أنت كل شيء قلت لي أنك ستبعده عني....

كنت طفلة ذات شعر غزير وطويل، وأحيانا أخبيء نفسي وراءه، كما لو أنني لم أعد موجودة، برزخ بين بين، إلى النعيم أو للعذاب؟ لأعرف الإجابة في حياتي قبل مماتي، ليس من المنطق كل هذا!

أحن إلى مواجهة تجعل العدو يظهر بوصفه الحقيقي دون ذلاقة لسان ونعومة أفعى! حفلة تنكرية دنيوية دنيئة! أنت من ترسل دعواتها، وكحالك بدأت بأقرب الأقربين!.

أحن لرائحة الهواء في الصباح الباكر وصفاء السماء وانشغالي بلا شيء! أستعد للمشاركة في الحرب فلست أنا من يتولى يوم الزحف!!

لست أنا من يهرب ليجر الخيبة التي تنتقل بسرعة تذهل من يعيش في عالم بدائي...

أنطلق على اليابسة وألهث من عظم الأمر، هل سأنقذ المدينة؟ وأنا وحدي؟ هل سأرمي بنفسي لأنقذ الجميع؟ قد فعلت ذلك قبلا وسأفعل، وسأفعل وسأفعل مرارا عديدة. قد تظن أنني لا يمكن أن أفعل ما يحلو لي، لأنك لا تستطيع فعل ما يحلو لك، فتغير ثوب اليوم لثوب قرون خلت، لتشعر بالأهمية وبأن لك دورا مختلفا، لا سيما أنك غائب دائما، إلا أن مصائبك تلحق الجميع كسيارة الشهب، ما أسرعها تصطدم بمكان ما لتدمره ولتبقى أثرا لا يمكن اختفاؤه ولو بعد قرون!!

أحن لشعوري بالنصر ودقات قلبي تعزف «الربيع المقدس» لسترافينسكي ياه أحبها كثيرا!!

أرفع رأسي لأرى ضوء القمر، وسوء القدر، ولوعة القهر، وشر يقال إنه ليس بشرا! فقط لأنك تقول شيئا وتفعل عكسه تماما، وليس ذلك فقط، بل مستعد للتضحية بي لأجل شعور يجتاحك مثل المس، ليس لأحد أي يد فيه. لكن الجميع هو المسبب!.

الخطأ خطأ الضعيف، لتبطش وتنكل بمن ترى أنه يستأهل! العدالة لا تعيش في مكان دونه مسوخ يكيلون بغرابيل مدسوسة عندهم توارثوها من أسلافهم ذوي الصيت! أحن إلى كل شيء يذكرني بي وبك!

أحن له حنين لم يساورني هكذا منذ أن وجدت! أنام لأصحو شخص آخر في جسد آخر، وأتمنى لو أن ينقذني أحد من هذا السجن الذي أفضل قضاء نحبي على أن أعيشه لحظة أخرى..

لتستيقظ أنت في جسد آخر، ولأبكي عني وعنك ولتسدد الدين أنت عني وعنك... لأرضى أنا أيضا.. هي هكذا والأفعال قوية.

الأفعال جلية.

الأفعال مدوية!

نحن نصحو يوما بعد يوم لنحن لأشياء لا يذكرها أحد سوانا، لنسبح في الفضاء الذي لا نعرفه، ونطير في السماء التي لا تعرفه، ونجوب الصحاري ونرقد في التراب جنبا إلى جنب، لنركب البحار، ولنتجول كيفما أردنا، ولكننا لا نعرف أيا من ذلك، أيا منه!

لنحن إليه بقوة تكسر أضلعنا بقوة!! كيف ذلك؟ هل ستجلب لي زهرة عباد شمس لأزرع أخواتها أينما ذهبت؟ أريدك أن تلحق بي، وتعرف أين أنا، أريدك أن تقول لي ما همست أنا في أذنك دهور ماضية وعوالم قاضية.. لتسمع صوتي في الفضاء الهائل، ولترى شعري يحركه الهواء، لأرى ابتسامتك في كل مكان أذهب إليه.. لا تدعني أذهب! .

لكنني سأذهب بعيدا.... فهذه رحلتي التي قلت لك عنها قبلا... أسمع عزفا أعرفه جيدا، لأسأل عنك، وليقولوا لي أنك ذاهب بعيدا، بعيدا، عند السحب القريبة والليالي التي تصبر على دموع تذرف من كل مكان في العالم، تذرف الدموع هنا، وهناك في الكهف المنطبق، وهناك عند الشلال المنهدر، وتذرف الدموع على أيدي الناسكين.

أطلب لي الرحمة، أطلب لهم الرحمة أطلب لكل من يحن الرحمة، فروحي تفتق فتقا لا يستطيع تقطيبه طبيب الدنيا، ولأنني أشعر بدموع لم أعرف لماذا هي غزيرة وحارة هكذا؟ لم يخبرني أحد بذلك.. نتبتل في صدورنا لنرفع عن أنفسنا هذا العذاب الدائم، ولنشرب كأسنا محفوظة مئة سنة تحت وسادة رأس أمي، أشرب منه قليلا، لأداوي به وجعي وأحتفظ بالباقي عند الحاجة... تتركه أمي لي بأكمله لأنها تعلم يقينا أنني سأحن لأشياء لم ولن تحدث، ولأنني أخاف أن أرقص ليكسر ظهري، فأمتنع عن البهجة، لأحتفظ به في وقت أحتاج فيه إليه لاحقا، قد يأتي ذلك اليوم، أو قد أخبئه في ردائي لتجده أنت وتأخذه، فقد تحتاجه أنت يوما، خذه ولا تعطه لأحد غيرك، عدني عدني عدني أرجوك عدني ألا أستحق أكثر القليل؟ ألا أستحق أقل الكثير؟ أم أنك مثله لا قلب لك؟ تسديدة باليسرى في صميم زجاج روحي، لأصرخ في أذن السماء معاندة، ألا تستاء دون بهاء ماطر، لأكرر هفواتي مجددا! ولأموت لأجل أمر غير مسمى، لأنك لا تريد أن تعرف هكذا، فأنت تتظاهر بالتقوى، وتخاف مما قد يقال عنك! إعصار ثم دوار ثم اعتذار ثم سوار! .

لأقص لك القصة كلها بسعة صدر مقبوض، وتظن أن كل شيء عاد مزهرا كما كان! حرب البسوس، أم أنها حصان طروادة؟ نرقص خفية بنصف بهجة، لأننا قد نحتاج البقية لاحقا، فلا يستوي أن نأخذ بهجة العالم لنا وحدنا، العالم كبير وبه أناس كثر...... يستحقون الفرح، لأنني سمعتهم كلهم بالأمس يبكون.. هنا، يبكون هنا، كلهم.

هذه الأنهار لمن؟ هذه الأزهار لمن؟ هذا لمن؟ ولمن ذاك؟ كف عن سؤالي فأنا أريدك أنت وحدك، والعالم ليس به أحد سواك، وإن مت فهذا عقابك، وإن مت أنت فهذا عقابي! لا شيء!

وفاز باللذة الجسور! عباد شمس منير في ظلمة حالكة، أمر لا يسبر غوره أي من البشر، فهم مشغولون بالعويل!.

جلست على الشجرة، أرقبك تكلم نفسك بغضب يشوبه شوق، أهو لي؟ أهو لي؟ أهو لي؟ أهواؤنا ليست كما نريد.

قد أبسط أجنحتي في أفق مخيلتي، لأنك لست إلا فيها، ولأنني حجبت شمسها وأمسها، لأثنيك عن الرحيل... فأنت في مخيلتي دائما...

أحن إلى كيف سأشعر عندما تطير بعيدا، سعيدا من دوني، لأتضعضع طيلة يومي، ولأنام على سريري الرخامي، بقدمين باردتين، لتقول لي في أحلامي أنني لا أبرد أبدا، ولأصحو من حلمي كمن عادت له حياته من جديد، لأتمنى أن أراك في حلمي على الدوام، لأقول لك أنني ولأول مرة في حياتي «أشعر بالبرد» لكن لا ضير، لا ضير فعندي رداء أمي، دافئ من تلقاء نفسه، فيدفئني أبدا وأبدا.

لا تبرح عني أرجوك، فلست أقوى على حنيني لما هو غير موجود، لشعور لم أعشه أبدا، لحياة لست أظن أنني سأجربها لو عشت دهورا..... حنيني هو ما سيفتك بي أسرع من طعنة غادرة في وسط قلبي المليء بأحاسيس أجزم أنني لم أعشها، لكنني أشعر بها... أقول لك ما لم أقله لأحد على وجه هذه البسيطة، لتقول لي إن الدنيا سحيقة، لكنني أحن، أحن.. أحن بشدة لم أشعر بمثيل لها طيلة حياتي، يبدو أنني ورثت ذلك، فلي الحق بما لا تظنني أستحق...

أدور في فلك شعوري وأخاف من فقد إحساسي أفضل الموت على ألا أفقد إحساسي.

لا تطأ على عباد شمسي، وقل لي من أين ناحية أتيت؟ فأنا أرقب هذه الجهة جيدا من شرفتي كل صباح....

نشعر بشعور المقبور، وعلى النور يطير الذباب، وأقول لـــــــلا أحد:

أحن لكل هذا. ليفهمني، فنحن نفهم بعضنا جيدا، إذ جلسنا عند المدفن...فأنت موجود في دفتري بكل تاريخ أدونه حتى يومنا هذا... أنت موجود..

أحن إليك، أتضرع إليك.. هل تشعر بما أشعر؟ فقد كنت أسري بقنديل ينير الأرض، لتستيقظ كل الكائنات ظنا منها أنني أنا الفجر.

قسوتك ارتدت عليك، ممن تخال أنه يحبك! فهذه هي العدالة التي أعرف، وقررت أن أعيش لكي أراها. جد طريقك فأنا لست هنا.

أمتعتي فقط.

يكفيني رداء أمي، ورجاؤك ليس ذا معنى بعد الآن.