إنه سؤال بسيط في ظاهره، عميق في معناه. وعلى الرغم من عمقه، وربما تعقيده، إلا أنه يدور حول شيء معلول بعلة بشرية: وجودا وعدما. بمعنى أن القانون يوجد حيث يوجد الإنسان الذي ميزه الله بالعقل والرشد؛ ذلك أن الحيوان المعتمد على غريزته، لا شأن له بالقانون.

إذن، القانون نتاج العقل الإنساني المتفرد بطبيعته عن الغريزة الحيوانية التي لا تنتج قواعد قانونية ملزمة. ومن هذه البديهية يتجلى سؤال آخر، هو: طالما القانون نتاج عقلي محسوب على الإنسان، بصفته عاقل راشد، فهل يتقبله البشر عادة بنفس راضية، بصفتهم صُنَّاعُه؟

الحقيقة أن ما يميز القاعدة القانونية هو عنصر الإلزام، بمعنى أنها تحمل معها إلزاميتها وإكراهها وجزاءها الذي توقعه على مخالفيها، ولولا عنصر الإلزام هذا لكانت مجرد قاعدة أخلاقية فحسب.

هنا يبرز سؤال آخر، وهو: هل الإكراه وحده من يحمل البشر على الانصياع للقانون؟ والجواب يقول إنه على الرغم من ضرورة عنصر الإكراه في سيادة القانون، إلا أن النسق الثقافي المهيمن له دور في جعل الأفراد أكثر اقتناعا بأهمية القانون، قبل أن يُجبروا، بواسطة إلزامية قواعده، على الامتثال لأوامره. ونقصد بالنسق الاجتماعي ذلك السلوك الذي يُختزن في(اللاوعي)، بما فيه القيم والمعتقدات والعادات والتقاليد التي تقود سلوك أفراد المجتمع تلقائيا.

أمام ثنائية القانون والنسق الثقافي، بوصفهما ضروريان للسلوك البشري، يتجلى لنا سؤال عن الشكل المثالي المقترح للعلاقة بين القواعد القانونية التي تسنها هيئات التشريع المختلفة، وبين النسق الاجتماعي المعاش، هل من الضروري أن يكونا متوافقيْن، بحيث يُضْمَنُ القبول السلمي الطوعي بقواعد القانون، أم أن الكلمة يجب أن تكون للقانون، بغض النظر عن توافقه مع النسق من عدمه؟ وسؤال آخر: هل ثمة صيغة محبذة للجمع بينهما في إهاب مناسب، بحيث يُستفاد من إلزامية القانون، ومن طوعية النسق المهيمن؟

ينبغي أن نؤكد أمرا مهما، وهو أن القانون إذا يروم، في غرضه الرئيس إلى تنظيم الروابط الاجتماعية، عن طريق تنظيم سلوك الأفراد ونشاطاتهم بما يحقق السلم المجتمعي، فإنه ليس وحده من تناط به تلك المسؤولية، بل هناك إلى جانبه مكونات النسق الاجتماعي، من عادات وتقاليد ومجاملات وقواعد أخلاقية، وقواعد دينية؛ فهذه أيضًا تساهم في ضبط سلوك الأفراد وتصرفاتهم، إلا أنها تقترن بجزاء معنوي فحسب، على عكس القواعد القانونية التي تقترن بجزاء مادي توقعه السلطة العامة على المخالف.

وهذا يعني أن كليهما: القانون والنسق الاجتماعي يسعيان نحو غرض واحد، ويختلفان في وسيلة تحقيقه، ومن ثم فإن العلاقة بينهما لا شك أنها جديرة بالبحث والتطوير والتجذير.

في الواقع، لا يمكن تصور توافق القانون والنسق الاجتماعي إلا في حالة وصول البشر إلى مرحلة كاملة من المثالية، وهذه مرحلة تقصر عنها الطبيعة البشرية، ولولا ذلك، لما كان للقانون، بغض النظر عن تعاريفه أو أسمائه التاريخية، لازما في حياة البشر،إذ الإنسان أقرب، بطبعه، إلى الشر منه إلى الخير.

وفي هذا المعنى يقول ابن خلدون: «والشر أقرب الخلال إليه (= للإنسان)، إذا أُهْمِلَ في مرعى عوائده، ولم يهذبه الاقتداء بالدين.

وعلى ذلك الجم الغفير، إلا من وفقه الله. ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعضهم على بعض؛ فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه، فقد امتدت يده إلى أخذه، إلا أن يصده وازع». ومن ثم ينبغي ألا نتوقع توافقا، أو حتى اقترابا من التوافق، بين القانون والنسق الاجتماعي في حياة البشر، على الرغم من تفاوت قوة مكونات النسق في حياة المجتمعات، من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى زمن آخر، ومن مكان إلى مكان آخر.

القانون إذن ينزع إلى حفظ كيان الجماعة وضمان استقرارها وتحقيق مصالحها العامة، وهو، لذلك، يركز على السلوك الخارجي للإنسان، ويهمل ما تضمره القلوب إلا في حالات استثنائية. بينما تنزع قواعد الأخلاق وقواعد الدين، وكل مكونات النسق المعاش نحو الكمال، فتراعي ما يجب أن يكون لا ما هو كائن. ولذا، نجدها تهتم بما تضمره القلوب وما يترتب عليه من سلوك خارجي، ديني وأخلاقي في المقام الأول، إلا أنها لا تقترن بجزاء مادي، كما قلنا. بينما اهتمام القانون بالمصلحة العامة مقدم على اهتمامه بالناحية الخلقية.

والخلاصة أن توافق القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية، بمعناها الأوسع، ليس متصورا، بسبب الطبيعة البشرية؛ ومن ثم يمكن أن يُنظر إلى القواعد الأخلاقية على أنها معايير مثالية يُسترشد بها في صياغة القوانين الأخلاقية. وغني القول أنه كلما ضاقت المسافة بين القانون والأخلاق، تحولت القواعد الخلقية إلى قواعد قانونية، ومن ثم كان البشر المعنيون أقرب إلى الامتثال الطوعي للقانون. ولا بأس من التذكير هنا بأنه ينبغي أن يُراعى في التشريع أن تكون القواعد القانونية أقرب ما يكون إلى قواعد النسق الاجتماعي، مع الأخذ في الاعتبار أن القانون، في كل الأحوال، مقدم على قواعد النسق.