رأيت في بعض الصحف صورة لرجل في وضع ربما كان لا يشبه وضع رجل يؤذن أو يصلي، ولكن تعليق الصحيفة على الصورة أو تحتها، كان معناه أن الرجل لا يؤذن ولا يصلي كما قد يبدو في الصورة، بل هو في رقص.. وخشوع في الرقص.. أو شيء كهذا يرمز لاستبعاد شبح الصلاة..!

وعندما منح أحد كبار الأدباء وساماً عالياً من حكومة بلاده، وفي غمرة الفرحة بهذا الوسام، نشرت الصحف حديثاً أجراه معه الصحفيون كعادتهم في مثل هذه المناسبات.. ومما روي فيه عن الأديب الكبـيـر: أنه لا يصلي.. ولا يصوم.. ولكنه يعبد الله بطريقته الخاصة.. أو كلاماً بهذا المعنى.. ومثل هذه التعليقات في صحف اليوم شائع كثير.

وهي ليست إلا مظهرا من مظاهر التحرر كالصور الخليعة أو العارية، وقصص (النجوم) والراقصات، والمبادئ التي يبشر بها هواة التحرر في جو أية صور وقصص من هذا القبيل.

وقصة التحرر كما شاع مفهومه في هذا العصر، قصة يطول بحثها وقد لا يغني فيه إلا التفصيل لمواجهة الضلال في فهم أبناء هذا العصر.. غير أنه يمكن القول اختصاراً بأن فن التحرر قد اتخذ شكل فن الأزياء، وكـمـا أن لكل عـام زياً جديداً هو (الموديل الجديد) في دنيا المرأة وعالمها الرجراج، فإن للتحرر زياً جديداً يلبسه الرجل، ومن ورائه المرأة في (الموديل الجديد) كل عام..

والملحوظ أنه ـ أي التحرر ـ يتطور دائماً كالأزياء.. في حدود ما تحرص الأزياء غالباً على أن تستره باحتشام أو بدونه في المرأة! إنه تحرر أفكار من الماضي.. من الرجعية.. من القديم ومن الدين.. وهو تحرر يلوح أنه يتطور.. أي يتخبط، وسيظل في تخبط مستمر، لأنه كمن يصنع أوهاماً، ثم يهرب منها لأخـرى.. وهكذا.. والحقيقة هناك..... في نفسه الضائعة التي يظل يبحث عنها ويتحرر منها في نفس الوقت.. كيف لا يتخبط إذن للأبد في مثل هذا الضلال؟ وما علينا من التحرر أو المتحررين.. وما علينا أيضاً من دين أحد أو علاقته بربه، قبل أو بعد التحرر، فربما كان الظاهر خداعاً، وربما كان هناك أناس من أهل الفكر ينافـقـون للعـصـر وتحرر العصر، ثم تنطوي سرائرهم على معتقدات أخرى.. رجعية فيما ينافقون إذ يكتمـونها ويتظاهرون بالتحرر نفاقاً أو تظرفاً.. وإن كان هذا لا يمنع وجـود مـتـحـررين في معتقداتهم منذ كان الضلال والهـدى، وكان النور والظلام..

وما نشرته وما تنشره الصحف، عن صلاة أحدهم أو صيامه إنما هو من هذا القبيل.. فيه معنى التحرر والاستخفاف والتظرف أو النفاق. ولعل الناس في الماضي كانوا يتطورون بين كل قـرن أو جيل وآخـر، فإذا هم في هذا العصر يتطورون مسرعين.. في طريق التحرر من كل شيء.

وإذا تحرر الجيل ـ أيضاً على سبيل المثال ـ من معنى الزوجة والأسرة والبيت فهي من ورائه بلغة الطبول والأزياء وحفلات الرقص.. وأخبار الغرام والمايوهات.. وهكذا.. ليتطور الجيل.. أي لتجري الإبل..! وهكذا تحررت الصحافة غالباً..

وقد يلوح الكلام عن مثل هذا التحرر تزمتاً أو رجعية، أو أي اسم كهذا بغيض في ذوق المتحـررين، ولهـذا ضعف بالتدريج، كل صـوت يؤدي ـ على الأقل ـ واجب المعارضة في وجه التحرر منذ كان للمعارضة وجود في الدنيا ضد كل شيء.. غير أنه قد غلب الخـوف والضعف والنفاق على المعـارضـة أيضـاً، ثم ضاقت دوائرها بالتدريج.. واتسعت دوائر التحرر.. فليكن للمتحررين مبدؤهم أو مبادئهم، فإن أوجز ما يقال في هذا الباب هو (لكم دينكم ولي دين). ولكن لماذا هذا الخدش أو التظرف أو الاستهزاء بمبادئ أخرى وإن غلب الضعف حماتها والاستخذاء؟ ألا ينافي ذلك طبيعة التحرر ومعناه؟

إننا لا نكره التحرر الفاضل، ولكننا نكره السفه والتمرد.. لا نكره أن نتقدم.. ولكننا نكره أن تدق الطبول باسم التحرر ـ وراء جيل فيه ما فيه من ضلال الإبل..!!

1962*

* كاتب ووزير سعودي سابق «1910- 1994».