الحديث الذي أثاره عالم الأنثروبولوجيا الجليل الدكتور سعد الصويان حول القبيلة في لقائه عبر برنامج «في الصورة» على قناة روتانا خليجية؛ أو الذي توسع في شرحه لاحقا عبر لقاء صحفي في الزميلة عكاظ، كان حديثا كافيا ليثير حفيظة الكثير ممن يؤمن بالقبيلة، أو يتبناها كأساس في العالم المدني الحديث.

ما يؤسف أن يواجه مثل هذا الطرح العقلاني من قامة علمية لها شأنها في الرصد الاجتماعي للقبائل قبل غيرها في الجزيرة العربية، أن يواجه بالتخوين والسباب والشتائم التي تعكس حالة من الأحوال التي قصدها الصويان في حديثه: أن أدوار القبيلة في التأثير على أفرادها إيجابيا انتهت أو في طريقها للزوال تماما.

ومن هذه النقطة تحديدا –عن انتهاء دور القبيلة- سأتوقف عند ثلاث نقاط، وهي بالمجمل ليست دفاعا عن طرح الدكتور سعد الصويان؛ فهو ليس بحاجة لدفاع أحد، ولا لتوضيح وجهات نظره الواضحة من زاوية علمية، وليست كذلك تبنيا لأطروحات أحد، بل رأي خاص قديم ويتجدد كل مرة حول القبيلة وأدوارها وتأثيرها في الوقت الحالي والقادم طرحت بعضا منه في مقالات سابقة.


النقطة الأولى:

قبل الأنظمة المدنية وشيوع السلم الاجتماعي من خلال فرض القوانين والإجراءات العدلية على الجميع؛ كانت السلطة الأبوية للقبيلة هي المتحكمة في أغلب التجمعات الإنسانية حول العالم، وكان لها شأنها وسيادتها في الجزيرة العربية بالذات. فالأفراد في القبيلة سابقا لا يكون لهم قيمة ولا اعتبار إلا من خلال قوة المجموعة التي ينتمي لها قبليا، يكون له رأس يرعاهم ويفرض سلطته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على مجموعة من الأفراد تذوب شخصياتهم داخل هذه المجموعة، ويأخذ اعتباره وقيمته بقدر انتمائه وولائه وعطائه له؛ ولأنها كانت تجمعا يخدم مصالح المجموعة (القبيلة)؛ فكل ما قوى الفرد فيها كان له اعتبار أكثر، لهذا غالبا ما تكون أدوار النساء فيها معدومة أو ضعيفة لأن المصلحة القبيلة ما يملكه الفرد من قوة جسدية تخدم في الحروب والتجارة والعمل والصراعات.

لذا أصبح الفرد / الذكر في القبيلة هو المسيطر مهما قلت رتبته فيها لما يملكه من قوة جسدية طبيعية، وأصبح يستمد قيمته وقوته من هذه المجموعة التي تتنافس بدورها مع مجموعات أخرى في النفوذ والسلطة والمكانة.

إذن فإن قيمة الفرد تساوي قيمة المجموعة وما يقدمه لها، وتتلاشى هذه القيمة إذا نبذته أو أبعدته هذه المجموعة لأية أسباب قد تحددها في عرفها ومبادئها؛ ولهذا أيضا أصبحت الفرد/ الأنثى في القبائل هي الأضعف لأنها مجرد امتداد لهذه المجموعة ومعملا للإنجاب وزيادة نسل المجموعة، وإمدادها بمزيد من الأفراد الأقوياء، أو مجالا لتوسيع الصلات وتقوية العلاقات وفرض السلام بمجموعات أخرى عن طريق عقود الزواج.

هذا الدور للفرد/ الأنثى في المجموعات القبلية هو ما فرض منذ القدم سيادة قانون العرض بين القبائل، وما جعل المرأة هي الدائرة الصغيرة المتناهية في التلاشي ضمن دوائر كثيرة من الأفراد الرجال الذين يجمعهم الاسم والانتماء الاجتماعي ويحتكمون لعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم ومواقف القوة والسلطة في حياتهم.

النقطة الثانية:

حينما انتهت مرحلة سيطرة القبائل وبدأت سيطرة الأنظمة السياسية بأنواعها، وجد مع هذه الأنظمة سياسات اجتماعية وقانونية بدأت تنزع السلطة المطلقة من يد القبيلة لتكون تحت مظلة الدولة، في الجزيرة العربية على سبيل المثال؛ عندما وحد الملك عبد العزيز -رحمه الله- القبائل في أطراف المملكة المترامية والشاسعة بتعاون مع مختلف القبائل؛ لم يكن توحيده لها مكانيا فقط وتحت اسم واحد، بل إنه كان بداية تنظيم اجتماعي وقانوني للجميع.

بدأت معه القبائل في التخلي عن أعرافها الخاصة في قوانينها، والاحتكام إلى سيادة النظام وسلطة الدولة وقوة القانون التي ينبغي أن يتساوى الجميع أمامها، في بداية أي مشروع اجتماعي وسياسي كبير كهذا لن يكون الخروج من سيطرة الأنظمة القبلية سهلا ومستساغا للجميع، ولكنه أخذ وقته حتى تحقق بالمجمل في الفترة الأخيرة التي نشهدها من سيادة القانون رغم محاولات الإفلات منه بالتقوي بالقبيلة وقوتها ومدى نفوذها، الفرد الذي كان يعلم أنه يكتسب قوته ومكانته في المجتمع من خلال اللقب الأخير الذي ينتهي به اسمه، وكان يعلم أنه ستكون هناك قبيلة يقف أفرادها جميعهم لحمايته في حال ارتكابه لخطأ أو جرم عامدا أو مخطئا.

أصبح يدرك الآن أن هذا اللقب القبلي لن يحميه أو «يفزع» له حينما يلجأ له، كنا نرى هذا إلى وقت قريب في حملات جمع الديات للقاتل، ومحاولات التستر والتغطية على المخطئ كالمتحرش، وقيام القبيلة بحمايته حتى من اخطائه التي تتعدى للآخر؛ لأن في حمايتهم له حماية للقبهم جميعا، وأصبحت المرأة بأدوارها السابقة في القبيلة التي تهمش دورها واستحقاقها ومكانتها، وتراها كمهدد دائم لسمعتها ومكانتها لارتباطها باحتمالات العار التي لن تقبل القبيلة الدفاع عنها فيها كما الفرد الذكر.

أصبحت المرأة -كما الرجل- تتمتع بميزة الحق في العدالة والقانون والاحتكام لأنظمة الدولة واللجوء لها والتخلص من التبعية والانقياد القسري لأعراف القبيلة.

بهذا انتهت مرحلة ذوبان الفرد في المجموعة لوجود الأنظمة والقوانين التي يتساوى أمامها الجميع قبليين أو غير قبليين، رجالا أو نساء، فضلا عن عمليات التعلم والحصول على المعرفة والانخراط في أسواق العمل التي يمكن للجميع التوجه لها والتمايز فيها بناء على الكفاءة والمقدرة العلمية والاستحقاق الذاتي، وأصبحت القوة الفردية أهم وأكثر اعتبارا من غيرها من تجمعات اجتماعية أو مذهبية أو قبلية.

النقطة الثالثة والأخيرة:

إن أي حديث عن انتهاء أدوار القبيلة في المجتمعات الحديثة لا يعني معاداتها أو إنكار أدوارها السابقة إن كان لها دور أو أفضلية بنته بطرق مختلفة، لكنه تأكيد على أن ما تبقى منها اليوم ليس له دور اجتماعي أو إنساني فاعل ومفيد في حياة الفرد المنتمي لها أو المتحالف معها أو للمجتمع الأكبر حولها، وجميع ما نراه مؤخرا لها هو تعزيز لنعرات التباهي والتفاضل التي لا تقوم على أسس منطقية أو إنسانية.

إن كان وجود القبيلة حتميا في المجتمعات المدنية المعاصرة فإنه يحتاج أن يكون أكثر تنظيما وكفاءة في العمل باعتباره أحد مؤسسات الدولة الاجتماعية.

لهذا يجب أن تعامل القبائل كأي مؤسسة حكومية مستقلة بأن توضع لها هيكلة رئيسة، ومعايير للعمل، ومؤشرات إنجاز سنوية، ومهام وأدوار ومسؤوليات لجميع المنتسبين لها، وهذا ما لا يمكن إجبار الجميع عليه ممن ينتمي لتلك القبائل لأنه منشغل بفردانيته وإنجازاته الخاصة، لكن يمكن أن توضع للقبيلة حتى تسهم بدور اجتماعي إيجابي في المجتمع بعض المعايير والاشتراطات المهمة، والتي لا أظن أنها موجودة لدى القبائل حتى الآن، كقاعدة بيانات مصنفة لكل فرد فيها، تشمل تفصيلا لكل عاطل عن العمل وكل محتاج ماديا أو جسديا، وكل من لديه أزمة نفسية أو عائلية، وعدد المقتدرين والمتعلمين والفاعلين في خارج إطار القبيلة، ثم توظيف هذه البيانات للأفراد في خدمة المجتمع وخدمتهم، بعمل مبادرات تدريب وتأهيل للعاطلين، ورعاية للمحتاجين، وإنشاء أوقاف اقتصادية وعلمية واجتماعية، لخدمة القبيلة وأبنائها من صندوق الأموال الذي يذهب غالبا في ديات للمستهترين أو مناسبات اجتماعية غير مهمة.

أفكار استثمار دور القبيلة في المجتمع السعودي بشكل إيجابي كثيرة ومتنوعة وقد تكون فاعلة إن أخذت بشكل جدي، ولكن الحقيقة التي ينبغي الاتفاق عليها أن دورها في حياة الفرد تلاشى بالفعل أو قد بدأ بالتلاشي.