لم كل الدنيا كي لا تلم نفسك ولا تريني وجهك بعدئذ.

مزق وجهك و أمح وجودك من دفاتري، قبل أن أسبقك فقد حزمت أمري منذ دهور!

دهور لا تساوي شيئا!

تعتقد أن العالم كله مخلوق لرفاهيتك، وأن كل من فيه طوع إشاراتك، تغضب ليغضب وترضى ليرضى ولا شيء يأتي قبلك ولا شيء يأتي بعدك، لا شيء، كل شيء هو لا شيء.

قمت من مهجعي أدير الشمس لجهتي، وأنتظر أن أرى وجهي في مرآة الأرض والسماء، أصلح كمي بأصابع طويلة أظفارها مصبوغة بلون زاه، يزهو لي، يليق بي، يزيدني جمالا على جمال.

جمال جبال فتاتها يتطاير على جسدي، ويصعد للسماء ليحجبني عن رؤية وجهي، لكنني أصد هنا و هناك.

لا أريد أن أراك، لكنني أتحرى مجيئك من الصبح السرمدي إلى الليل الأبدي، لكنك لا تأتي، لأنك تعرف أنني أنتظرك، وأنت تحب ذلك، لا تثريب!

خلت أنك مت، وكعادتي أسهبت في دموعي، تشجعت ونعيتك لمثواك الأخير، بدمع قلبي، ودم عيني.. تشجعت و لم أقبل بهذه الحقيقة، فأنا أشك في كل حقيقة ثابتة، شكا لا تخالجه شائبة، فمن يرتد عن ترهاتك، شرف له ابتساراتك، لأن الجميع يعلمون حقيقتك!

أنت بذاتك لست حقيقيا!.

نظرت للسماء وتزاحمت الغيوم والعيون، ولا أعلم من أمطر بكثافة أغرقت الدنيا، فهي تمطر منذ خمسة وعشرين عاما، عمري و عمرك سواء لا يستويان في مستوى يساوي شيئا، ولا يساوي شيئا أصلا! عشر سنين لا تحتسب، فأنا لا أذكر منها شيئا، وأريد أن أعاود الكرة، لأكره! فأنا الكون وأنت الكائن!

نقاط ملتهبة في سماء حريرية، جيدها يتزين بالماس، وعنقها شمس ساطعة، أقراطها نجوم السماء وفستانها أزرق سائح!

كحلها جناح طائر حر، تطير متى ما أرادت، تمطر متى ما أرادت وتقفر متى ما أرادت.. شمسها وقمرها بيديها والعالم يهرع إليها إلا أنت.

لماذا؟ لا تعتقد أنك ستلوي ذراعها، فقد تسحقك سحقا، تمزقك تمزيقا، إنها الـــــــــسيدة الجميلة، وما الحب؟؟

سحقا للحب الذي تعرف! تتنازعنا الأهواء لنصمد أو لنرضخ، لا خيار آخر، لنختار أيهما و لنتعذب بأيما اخترنا، فلا شيء ذا معنى، و تتقهقر ذواتنا ترزح تحت شوق صلف، و نستدير مخلفين وراءنا دنيا كرهناها لأجل شعور حقيقي زائف!

تحت منارة الفنار أجدك حاسر الرأس، ترقب شمسي المختبئة، الشقاء بقاء!! وتتساءل، مهما أجيبك تتساءل.. مهما أطمئنك تتساءل.. مهما أعطيك تتساءل! مهما أمنحك تتساءل! مهما أقسم لك تتساءل! مهما أبرر لك تتساءل! مهما أغدق عليك تتساءل!

لا شيء يعني شيئا! تساؤلاتك تشير لشيء واحد فقط:

أفصح عنه بشجاعة، أم أنني سأغادر، وهذا وعد.

نهرول في دوافعنا مسرعين، و نتيقن بالهزيمة في المنفى، لننام تحت ضياء الليل المنير، نتوسد خصام عمره خمسة وعشرون عاما، ولنصحو في عتمة الصباح المظلم، على هذا المنوال، راضين بما نستطيع تغييره! أيها الإنسان الأبله!!

أيها الأخرق.. لا شيء هنا... لا شيء هنا... لا شيء لك هنا!

ألم أقل لك أنني سأرحل؟ ألم أقل لك إن بيتي الجديد خلف التلال؟ فوق السحاب؟ محاط بالنجوم؟ و به أناس كثر، أعرفهم في أحلامي فقط، وأحادثهم بلغة علموني إياها وراقت لي كثيرا.

لغة بها علامات تعجب، وشَدَّة دون شِدّة، وصفاء نفوس يظهر في تكرار حروف الجر، وضمير مستتر مكشوف! وحب عظيم يتجلى في الإطالة بالنظر، وكل فرد منهم يحملني عليك، وكلهم محقون!

صحراء مقفرة، تتحول لحقل مزهر، في لحظات.

يتغير لون فستاني تلقائيا، ويطير شعري في الهواء، يلمع قرطي في الشمس الذهبية، وأرفع وجهي في السماء لأرى نفسي! لأرى نفسي في كل مكان...

تتلبد الغيوم في ثوان، و لا آبه، فأنا أعرف أنها ستمطر وأنا أحب المطر!

لتمطر مطراً غزيراً يغسل قلبي و ليشجع عيني على أن تمطر هي بدورها، فتمطر عيناي، ويبتل شعري، وفستاني يثقلني، لكنني لا آبه، فأنا أحب المطر!

تمطر بالساعات، لأجلس على الأرض، أرقب السماء بذهول يتجدد مع كل قطرة، ولأرفع كفي وأحاول الإمساك بها، ولتفلت من بين أصابعي، و لتسقط على الأرض مختفية.. لكن الأرض تشربها، لأن الأرض مثلي، لا تبالي، أقوم أمشي دهورا، وتمطر دهورا، وفستاني على حاله، أزرق باهٍ سائح، يزيدني بهاء، ويشير لوجودي في هذه الأرض المتماسكة، الأرض التي يرشقها السيل ليل نهار، و لكنها لا تبالي.

أنا الأرض، و ترشقني السماء طيلة خمسة وعشرين شتاء، لكنني أحتجب، تارة وأخرج أواجهه بشجاعة تارة أخرى!

أيتها الأرض، أعطي السماء فرصة لتحكي لك ما يوجعها، فهي تبكي طيلة خمسة وعشرين عاما، طيلة عمري، و عمري فقط هذه المرة.

فأنا لن أدونك في دفتري و لن أرقبك من النافذة

و لن أسرح شعري

و لن أكتحل

و لن أفتح لك قلبي

و لن أناديك باسمك بشوق يكاد يفتك بي

و لن أفكر بك

و لن أزرع عباد الشمس في طريقك، لتجدني في نهايته، فأنت لن تأتي لي، و أنت لن تبحث عني لكن قلبي يقول......!

أغتسل في السيل العارم، لأفكر إلى أين سيأخذني؟ و لأفكر لم كل هذا العذاب؟ لأجيب بأني أعذب نفسي لأعذبك!!

لأنني أعلم أن هذا الشيء الوحيد في هذا الكون الهائل، هو ما يوجعك حقا!

هو ما سيهلكك حقا!

هو ما سيقضي عليك حقا!

أنا أبحث عن رداء أمي منذ الأزل، أريد رداء أمي أريد أمي، أريد أن أراها الآن لأقول لها إنني أحبك، و لتقول لي بأنها تحبني و لتسهل علي الغصة ذات الخمسة و عشرين عاما، و لأبلع بسهولة منذ خمسة وعشرين عاما!

لتعالجني أمي، ولتسقيني كأسها القديم، ولأرجع طبيعية جميلة كما كنت...... قبلك!

أرى نفسي في مرآة العالم، لأعجب في فستاني الجديد السائح، و بين يدي عباد شمس زاهية، تتوجه حيثما أتوجه، لترسل عبيرها ليشمه الجميع، وليراني الجميع، وليقولوا لي: أنت لا تستحقين كل هذا! لكنهم غرباء لا أعرفهم! لذلك يقنعونني....

نرى كل شيء بأعين العشاق المعذبين، لا يشترط أن نستحمل عذابا أدبيا فقط! ورق و عرق!

رفاق فعناق، ثم نفاق؟ لا عذاب يشقينا بعد كل ذلك!

لكننا لا نحب، ولنرى الدنيا كما لو نراها أول مرة منذ خمس و عشرين سنة، و عمري يتملص هنا و هناك، وأركض مستوحشة كل ليلة في حلمي، لأن كابوسا لا ينفك يراودني لأصحو مفزوعة بشدة!

و لأنام بعد ذلك باطمئنان مريب، فأنت لست هنا! أنت لست هنا و لا أريد أن أراك..

أستيقظ كل صباح باهج، لأصفف شعري قرب النافذة، أرقب الطيور وأسمع زقزقتها، لأبتسم شيئا فشيئا، خشية أن يتغير كل هذا!

لا ترى ابتسامتي فهي الخطيئة الوحيدة التي أملك، و لا أملك سوى أمتعتي ورداء أمي وكأسها!

و أمتلك بهجة مدوية!

أنا حرة! ككحل عيني! كفستاني! كشعري!

أنا حرة! قلت لك ذات مرة، إنني سأكون كذا وكذا، وقلت لي كذا و كذا، ودفعتك وانفجر الهواء حولك و سقطت أرضا.. ولم تقف بعدها منذ خمسة و عشرين عاما!

أتيت معتذرا ذات يوم قبل عشر سنوات، لأرد عليك بأنه فات، كل شيء فات!

ففي الصيف، أو في الشتاء ضاع اللـــين! لتقول لي بأنني مدللة! وبأن الدنيا ليست كما أريد!

أعلم ذلك!! كيف تفسر عيشي معك؟ كيف تفسر ما أرتدي؟ كيف تفسر ما أقول؟ وما لا أقول؟ كيف تفسر شعري؟ و كحلي؟

أغلقت بابا كان مفتوحا لمدة طويلة، أغلقته ثم هدمت البيت ذاته! لم يعد بابا أو بيتا! لم يعد شيئا! لا شيء!

الدنيا ليست كما أريد إيماني راسخ كالجبال السحيقة، قمم تعشش فيها جوارح أنت لست منها!

قمم مهجورة، لكن لا تتجرأ عليها السماوات!

جبل وجبل بينهما سور عظيم، والسور جلجثة عمرها ألف سنة! تأكل بقاياها حشرات غذاؤها ذكرى..

هل تذكر؟ وصوت الصفير في عز الليل.. أم أنها حشرة الليل؟ لا فرق!

لا تظنني نسيت ما قلته لي ذات يوم، و لا تعتقد أن قلبا قد تقطع أنه لا يستطيع أن ينكل بك؟

فقد خسر كل شيء و ليس عنده ما يخشي أن يخسره!!!

قلبي تائه مثلي لكنه حر مثلي!

تجر رجليك كل عام، تزورني مكسورا ومدحورا، لتعتذر عن كل شيء و لأقول لك أننا أصدقاء لا داعي لأن تجتر الماضي، فأنا لا آبه بك و به!

لتغضب، ولكنني لا أقيم لغضبك وزنا!

ولهذا تغضب بشدة، أريك الباب، و لتخرج، و لتأتي غدا بعباد شمس جديد، كعادتك كل دهر!

و لأرميه في سلة مليئة بزهور عباد شمس قديم، عمره دهور!

كلها منك! و لكنني لا أحبه هكذا، فخلف بيتي أزرعه وعند الغروب أستلقي بجانبه ويستلقي بجانبي، فأنا أحبه، و هو يحبني رائحته جميلة مثل رائحة فرحتي و لونه زاهي مثل لون الغروب السرمدي، الذي اضطررت أن أعيشه، ويا لجمال الفجر! يا لجمال الشروق! يا لجمال الصباح! ليتفتح عندما يراني! وليذبل عندما أبتعد عنه!

سريت أحلم بأيام لم أعد أعدها، و فتحت خزانة روحي أبحث عن فستان اليوم السائح، كعادتي أحبه سائحا، ليندمج مع الطبيعة، ليشرب من الأرض و السماء، ولينعش عمري القاحل! المجدب!

لأشهق شهقة من عادت له روحه بعد الموت، ولأخر على ركبتي، يبللني المطر!

لا تعتقد أن ما تقوله في قلبك ليس جهوريا! فأنا أعرفك! والصمت جهر دائما!

مفارقة حفطتها عن ظهر غيب! في مغيب يومي و ليلي!

أنتظر عند البوابة الحديدية بمظلتي هذه المرة، وبمعطف ثقيل يستبدل فستاني السائح هذه المرة، فهي تمطر بغزارة مختلفة هذه المرة!

وأنا أحضر جنازة اليوم!

جنازتي اليوم!

السيدة الجميلة اليوم!

نعم! هل ستزهر الصحاري؟ هل ستجف البحار؟ هل ستنشق السماء؟ هل ستفكر بي؟

لا! لا! لا! لا! لكن أمي ستسأل عني، أمي ستناديني، وأنا لا اقوى أن أسمع نداءها ولا آتي.

قل لها إنني لن آتي، فأنا الأرض التي تمشي عليها الآن، قل لها أن ترفع رأسها في مرآتي،

قل لها أن تسير حافية، أود أن أشعر بها، قل لها أن تزرع عباد شمس هنا، وتسقيه، وقل لها، أمي، كأسك في بيتي، لم أشرب منه شيئا، ورداؤك في خزانتي، يا أمي، خذيهما يا أمي، فأنت بحاجة لهما الآن يا أمي.

أما أنت، فقلت لك ما يكفي، ولن تمطر اليوم.