أعجب قصة في رأيي هي قصة الدنيا الغريقة أو قصة القارة المفقودة التي غاصت في جوف الماء. وهي قصة معلقة بين الواقع والشعر تصلح لبحث العــلم وتصلح لاختراع الخيال، ولم تزل منذ تحدث عنها الفلاسفة والمؤرخون في القرن الخامس قبل الميلاد خبرًا معلقًا يثبته أناس وينفيه آخرون، وليس في أدلة الإثبات ولا أدلة النفي نهاية يحسن عليها السكوت.

حسبها عجيبة لأنها تشبه الواقع وتشبه الخيال في وقت واحد، ولو كانت واقعًا محضًا لكان شأنها شأن التاريخ وفيه من العجائب والعبر مـا لا يحصيه الكاتبون والقارئون، ولو كانت خيالًا محضًا لكان شأنها شأن الغرائب الخيالية التي يتعجب لها الناس أحيانًا ثم يقولون: «لا عجب.. أنها خيال»

لكن هـذه القصة ـ قصة الدنيا الغريقة ـ تتراءى بملامح الحقائق الواقعة كما تتراءى بملامح المخترعات الشعرية، ولن تزال عجبًا في التاريخ والشعر إلى أن يفصل فيها العلم فصله الأخير، وقد يتأخر هذا الفصل الأخير عدة قرون.

تعرف تلك «الدنيـا الغريقة»، باسم الأطلس الضائع، وأول من أسهب في وصفها أفلاطون فيلسوف الأغريق الكبير، وكان قد نقلها عن صولون الذي سمعها من الكهنة المصريين ونظمها شعرًا لأنها اصلح ما تكون للقصيد المنظوم.

وتجدد البحث في هذه القصة مع تجدد البحث في جميع الآثار القديمة حوالي القرن الثامن عشر، فاشتغل بها طائفة من المفكرين والباحثين تخصصوا لهـا حتى عرفوا باسم الأطلسيين، وتألفت من ساحثهم وفصولهم في هذه القصة عدة مجلدات.

ويسأل هؤلاء الأطلسيون من يناقشونهم: بماذا تفسرون وجود التحنيط وعبادة العجل في حضارة المصريين وحضارة أمريكا الوسطى؟ وبماذا تفسرون تتابع العصور المعدنية على نظام واحد في القارات المنفصلة؟ وبماذا تفسرون وجود نبات كالموز في امريكا وهو من النباتات التي تنتقل من إقليم إلى إقليم بقصد قاصد لأنه خال من البذور؟ وبماذا تفسرون انقراض الخيل في امريكا مع أن الحفريات تدل على وجود الحصان فيها حين كان حجمه لا يزيد على حجم الثعلب؟ وبماذا تفسرون اتجاه المصريين إلى الغرب واتجاه الأمريكيين الأقدمين إلى الشرق كلما ذكروا أصل الحضارة ومقام الأرواح والأرباب؟ وبماذا تفسرون التشابه في التقويمات الفلكية وفي بعض حساب السنين؟

يسأل الأطلسيون مئات من هذه الأسئلة ويعتقدون أن تفسيرهـا سهل جدًا بالرجوع إلى حضارة القارة الغريقة واعتبارها أصلًا للحضارات التي تفرقت في مشارق الأرض ومغاربها، ويفترضون أسبابًا كثيرة للكارثة التي غاصت بالقارة إلى جوف البحر المحيط، فمنهم عالم كالأستاذ هانس هور بيجر Hoerbiger النمسوي يرى أنـه نتيجة لعبور کو کب طارئ غير موقع القمر وآثار سواه البحار، ومنهم من يقرر أن الزلازل فعلت فعلها في تمزيق القارات الخمس فانفصل بعضها عن بعض وبقيت بينها فجوات تدل على اتصالها السابق، ويزعم هؤلاء ان الجوانب البارزة في النصف الشرقي من الكرة الأرضية تقابلها جوانب غائرة في النصف الغربي منها، وانهما يتلاحمان او يكادان لو حدث حادث يجذب كليهما إلى الآخر.

أو لو تناولنا الخرائط مقصوصة على الورق فضممنا غرب أوربا وأفريقيا إلى شرق الأمريكتين.

وابن موقع الجزيرة الغائصة؟ موقعها على زعمهم في جوار جــال الأطلس، وبقاياها قد تكون في جانب من جوانب المحيط أو قد تكون من الآثار التي انتقلت إلى الأرض الناجية وانقطعت الأخبار بينها وبين الحضارات التالية لتقادم الزمان.

والمسألة بعد ليست مسألة فروض أفلاطونية وإن كانت روايتها الأولى مردودة إلى أفلاطون. كلا، بل هي مباحث يتوقف عليهـا البت في كثير من المجهولات والاهتداء إلى كثير من علل الأشياء التي تفتقر إلى التعليل المريح.

فمن العجيب ولا شك ان توجد سلالة اللغات الساسة وسلالة اللغات الطورانيـة وسلالة اللغات الأمريكية القديمة غريبة بعضها عن بعض مع وحدة النوع الإنساني واتصال العلاقات بين بلاده، ولعل هذا التشعب يلتقي في أصل واحد هو اللغة التي كانت أصيلة في الحضارة الأولى ثم تباعدت الفوارق بينها وبين فروعها.

ومن العجيب كذلك أن توجد الكتابة بالحروف الهيروغليفية والكتابة بالحروف الصوتية والكتابة بالحروف المسمارية والكتابة بالطريقة الصينية والكتابة بالطريقة الأمريكية القديمة، وبين هذه الأساليب المتعددة شبه من ناحية واختلاف من ناحية اخرى، افلا يجوز ان يكون مرجعها الأول إلى تلك الحضارة الاولى التي ذهبت قبل التاريخ؟

هنالك حلقات مفقودة كثيرة تواجهنا حين نحاول أن نربط بين فروع اللغات وأساليب الكتابة، كما تواجهنا حين نبحث عن الروابط المنقطعة التي لا يعقل أنها كانت منقطعة هكذا من قديم الزمان.

وليست الحلقة المفقودة التي يبحث عنهـا علماء الحياة وأصحاب مذهب التطور السلسلة الكبرى. فهل من البعيد أن تلتقي الحلقات في مكان واحد هو مكان الحضارة الغريقة أو العالم المغمور في جوف الماء؟

1951*

* ناقد وكاتب مصري «1889 - 1964».