ربما كان الوعي السياسي والاجتماعي ليوسف إدريس قد ولد ونما في العصر الملكي السابق. ولكن وعيه الفني قد تبلور في عصر الثورة، ولم تصدر مجموعته الأولى إلا عام 1954، ولنقل إنه بدأ ينشر بانتظام قبل هذا التاريخ بعام أو عامين. ومعنى ذلك أنه عاصر الانقلاب الاجتماعي الذي أحدثه قانون الإصلاح الزراعي والتمصير والتأميم ومجانية التعليم وإلغاء الألقاب والأحزاب، ونزع ملكية الصحف من القطاع الخاص، وبناء السد العالي وعشرات المصانع وفتح السجون والمعتقلات لجميع أصحاب المذاهب السياسية من يسار ويمين ووسط وما بينهم من ظلال وتموجات.

في فترة قياسية كان المجتمع المصري يعاد تشكيله بنيويًا وليس جذريًا، أي أن العلاقات الاجتماعية والقيم كانت قيد التغيير. ولكنه تغيير بالغ التعقيد، فالسلطة لم تكن موحدة الأيديولوجية ولم تكن «أيديولوجياتها» مستمرة في جميع المراحل. وانعكس ذلك على تكوين هذه السلطة، وعلى ازدواجية -وأحيانا تثليث- الإجراءات وأسلوب اتخاذها وطرق تطبيقها وتناقض الأطراف المستفيدة منها أو التي أضيرت بسببها.

قبلت الثورة الاقتصاد الحر في مرحلة دون الإقرار بالليبرالية. ثم قبلت الاقتصاد المركزي المخطط دون الحاجة إلى الاشتراكيين، بل وضعت الجميع في أماكن نائية عن صنع القرار ومراقبة تنفيذه. ونزل الجيش إلى الحياة المدنية يدير أجهزة الدولة والقطاع العام بغير تأهيل تكنوقراطي أو أيديولوجي.

تسبب ذلك في فك مفاصل المجتمع القديم من دون القدرة على إقامة «المجتمع» الجديد، بل ظهر قوام اجتماعي رخو وغير متماسك، وأقرب إلى السيولة التي تتشكل حسب الإناء الذي توضع فيه بغير أن تفقد خواصها الأصلية. هكذا ارتبك الفرز الاجتماعي طبقيًا وفكريًا ووجدانيًا وسلوكيًا، ولم يعد من السهل ملاحقة التشكل المنبسط المنبعج المنطوي المنتفخ من عام إلى آخر، أو من قرار إلى آخر، حتى أصبحت لا تعرف الوجه من القناع، وأضحيت أمام جسم بلا رأس، أو ركبت له رأس جسم آخر، وأمسيت أمام قلب استعار عقلا لإنسان مختلف. تقول إنك تعرف صاحب هذا الاسم ولكنك تدهش من أنه أمسى صاحب هذا الرسم.

فوضى مخيفة، برج بابل من الألسن والمشاعر والأفكار والسلوكيات المتناقضة، وأصبح للفلاح والعامل والرأسمالي المستغل وغير المستغل تعريفات قادمة من خارج الوجود الفعلي للفلاحين والعماد والرأسماليين، واختلط المكتوب على الورق بالموجود على الأرض.

عايش يوسف إدريس هذا القوام الاجتماعي الغامض غير المستقر والذي كان قابلا للانهيار من جديد بعد ثمانية عشر عاما، ولكنه الانهيار الذي وصل بالفوضى الاجتماعية في حدها الأقصى، فلم يعد أي تعريف للعامل أو الفلاح أو المثقف أو الرأسمالي قادرا على التحقق الفعلي.

هذه هي المرحلة التي بدأت في السبعينات وما زالت تتطور بنا إلى المجهول، وهي ذاتها المرحلة التي صمت فيها يوسف إدريس.

أي أن أغلب أعماله وكثرتها الساحقة تنتمي إلى تلك المرحلة «السائلة القوام» الاجتماعي. ومنها اقتنص اللحظة الرجراجة في التاريخ المائع.

وهي لحظة بشرية استطاع أن يفك أسرها ويسبر غورها ويغطس في قاعها. وهي اللحظة التي ندعو تفاصيلها بالمواطن العادي والحادثة العادية والسلوك الشائع والوجدان الجماعي والعقل العام.

وهي تسميات على درجة عالية من التعميم لهذه الأنماط المتسللة والمتسربة على طول وعرض السلم الاجتماعي المصري بأخشابه ومعادنه وأسلوب صنعه.

يوسف إدريس نهل من معين هذه اللحظة التي قبض عليها بكلتا يديه كالسر، فحقق شعبيته الكبيرة لأن الناس أحبت من يكشف لها السر.

ولأنه استطاع أن يجسم ما لا يقبل التجسيم، ما يفلت من التماسك، بمادة سحرية ندعوها البصيرة الفنية والوعي، فقد أحبته النخبة وهو ينتزع أشكال الوعي من براثن الفطرة والطقس الشعائري الذى تمارسه التقاليد والعادات والقيم المتأصلة في الأعماق والمتناقضة حتى الموت.

1974*

* ناقد وأكاديمي مصري " 1935 - 1998 ".